القهوة سلعة صامدة أمام التضخم.. قراءة في تحولات السوق والاستهلاك
المستهلكون يغيرون السلوك لا العادة.. كيف أعاد غلاء القهوة تشكيل عادات الاستهلاك عالميًا
رغم الارتفاعات القياسية في أسعار القهوة عالميًا، لم تُظهر عادات الاستهلاك أي بوادر تراجع حقيقي. فالقهوة، التي لم تعد مجرد مشروب صباحي، بل أصبحت جزءًا من نمط الحياة اليومية والهوية الاجتماعية لملايين الأشخاص، أثبتت قدرتها على الصمود في مواجهة التضخم.
ويرصد تقرير لوكالة بلومبيرج هذا التناقض الواضح بين الأسعار المرتفعة والطلب المستقر، كاشفًا كيف يدفع ضغط التكاليف المستهلكين إلى تعديل سلوكهم الاستهلاكي بدل التخلي عن عادة يصعب كسرها، في وقت تتشابك فيه العوامل المناخية والتجارية والسياسية لتغذية موجة الغلاء.
صدمة الأسعار.. أسباب مناخية وتجارية متراكمة
وبحسب بلومبيرج، ارتفعت أسعار حبوب الأرابيكا، الصنف الأكثر استخدامًا لدى سلاسل عالمية مثل ستاربكس، بأكثر من 80% منذ مطلع عام 2024، في قفزة تعكس اختلالًا حادًا بين العرض والطلب.
وتعود هذه الزيادة إلى تراجع الإنتاج العالمي، ولا سيما في البرازيل، أكبر منتج للقهوة في العالم، نتيجة موجات طقس سيئة أثّرت في المحاصيل. كما أسهمت الرسوم الجمركية في رفع تكاليف الاستيراد، وحتى بعد تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن بعض هذه الإجراءات، بقيت الأسعار عند مستويات تفوق ضعفي متوسطها خلال العشرين عامًا الماضية.
وانعكس هذا الارتفاع مباشرة على أسعار المشروبات في المقاهي، حيث باتت تكلفة الكابتشينو واللاتيه تمثل عبئًا ملموسًا على المستهلكين، خصوصًا في المدن الكبرى.
اقتصاد الحيلة بدل كسر العادة
وفي مواجهة هذا الواقع، لم يتجه المستهلكون إلى التخلي عن القهوة، بل إلى «إعادة ابتكار» طريقة استهلاكها. وتورد بلومبيرغ مثالًا لطالبة أميركية في برشلونة تقوم بتحضير اللاتيه كامل المكونات باستخدام أدوات بسيطة في السكن الجامعي، معتبرة ذلك «أفضل حيلة حياتية» لتقليص الإنفاق.
هذا السلوك الفردي تحوّل إلى ظاهرة أوسع، إذ تضاعف خلال عام واحد عدد المنشورات على منصة «تيك توك» التي تحمل وسمَي #HomemadeCoffee و#CoffeeMaker، خصوصًا بين أفراد الجيل «زد».
ولا تروّج هذه الفيديوهات للتقشف بقدر ما تروّج لفكرة الحفاظ على المتعة نفسها بكلفة أقل، من خلال محاكاة تجربة المقاهي في المنزل، بما يعكس تحولًا ثقافيًا في طريقة تعامل المستهلكين مع التضخم.
المقاهي تغيّر قواعد المنافسة بدل خسارة الزبائن
التحول في سلوك المستهلكين فرض بدوره تغييرات على نماذج أعمال المقاهي، إذ يشير التقرير إلى تنامي الإقبال على منافذ «الدرايف ثرو» وخيارات الشراء الأسرع والأقل كلفة، ما يزيد من حدة الضغط التنافسي على السلاسل الكبرى.
ويقول جيفري يونغ، رئيس شركة «أليغرا ستراتيجيز» للأبحاث، إن «القهوة متغلغلة تمامًا في الحياة اليومية للمستهلكين»، مضيفًا أن الاستهلاك «لا يتراجع، بل يعيد التموضع».
ويعني ذلك أن المستهلك يفضّل خفض مستوى الفخامة أو السعر بدل الانقطاع الكامل، وهو ما يدفع الشركات إلى إعادة تسعير منتجاتها وتقديم بدائل أرخص للحفاظ على حصتها السوقية.
القهوة كنموذج في زمن التضخم
وتخلص بلومبيرغ إلى أن سوق القهوة يقدم مثالًا واضحًا على سلعة يتمتع طلبها بمرونة عالية أمام الصدمات السعرية. فرغم بلوغ الأسعار مستويات تاريخية، لا يزال الاستهلاك مستقرًا نسبيًا، لأن القهوة تُصنَّف لدى كثيرين سلعة شبه أساسية.
ويعكس هذا السلوك نمطًا أوسع في الاقتصاد العالمي، حيث يواجه المستهلكون تضخمًا مستمرًا عبر «الترشيد الذكي» بدل الإلغاء الكامل للعادات.
وفي حالة القهوة، يظهر أن المدمنين على الكافيين مستعدون لتغيير المكان والطريقة، لكنهم غير مستعدين للتخلي عن الجرعة اليومية، وهو ما يجعل القهوة من أكثر السلع قدرة على الصمود في مواجهة الغلاء.
أرقام عن سوق القهوة في العالم
توقع تقرير نشره موقع «ذا روسترز باك» المتخصص في القهوة وصول إجمالي إنتاج البن بنوعيه، الأرابيكا والروبوستا، في موسم 2025/2026 إلى 178.68 مليون كيس، مقارنة بـ174.39 مليون كيس في موسم 2024/2025.
كما تتوقع وزارة الزراعة الأميركية أن تتصدر البرازيل قائمة الدول المنتجة بإجمالي 65 مليون كيس، تليها فيتنام بنحو 31 مليون كيس، ثم كولومبيا بـ12 مليون كيس.
وتُعد الجزائر أكبر دولة مستهلكة للقهوة في العالم العربي بواقع 5.2 ملايين كيس، تليها السعودية بـ1.5 مليون كيس، ثم المغرب بنحو 1.014 مليون كيس، فالأردن بـ950 ألف كيس.
