تلوث البلاستيك يصل إلى واحدة من أكثر الحشرات عزلة على وجه الأرض
نفايات البلاستيك تصل إلى قلب القارة المتجمدة.. ميكروبلاستيك داخل حشرة أنتاركتيكا الوحيدة
يُخيَّل للكثيرين أن القارة القطبية الجنوبية، بعزلتها الشديدة وامتداد الجليد على معظم مساحتها، هي آخر مكان يمكن أن يصل إليه التلوث البلاستيكي. فالنشاط البشري هناك محدود، وتبدو بعيدة عن مصادر التلوث اليومية التي تشهدها بقية أنحاء العالم.
لكن هذا الإحساس بالعزلة لم يعد كافيًا لحماية البيئة القطبية. فقد كشفت دراسة علمية حديثة عن وجود جسيمات بلاستيكية دقيقة داخل الحشرة الوحيدة الأصلية في أنتاركتيكا، ليس في مياه المحيط أو الثلوج المتساقطة، بل في التربة نفسها.
هذا الاكتشاف يوضح كيف تسلل التلوث البلاستيكي بصمت إلى واحد من أكثر النظم البيئية البرية عزلة على كوكب الأرض، ويؤكد أن التأثير البشري بات يمتد حتى إلى أبعد المناطق.
حشرة أنتاركتيكا في مواجهة الميكروبلاستيك
لا تبدو حشرة Belgica antarctica لافتة للنظر، فهي ذبابة صغيرة غير لادغة لا يتجاوز طولها بضعة ملليمترات، لكنها تحمل رقمًا قياسيًا فريدًا، إذ تُعد الحشرة الوحيدة التي تعيش حصريًا في القارة القطبية الجنوبية.
تقضي هذه الحشرة معظم حياتها في طور اليرقة، حيث تعيش اليرقات داخل الطحالب الرطبة والطحالب الدقيقة على طول شبه الجزيرة القطبية، وتتجمع بأعداد كبيرة في مساحات محدودة، وتؤدي دورًا بيئيًا بالغ الأهمية عبر تفكيك المواد النباتية الميتة وإعادة العناصر الغذائية إلى التربة.
ومن دون هذه الحشرات، ستواجه النظم البيئية البرية في أنتاركتيكا صعوبة كبيرة في الاستمرار. فالحياة هناك تتطلب قدرة استثنائية على التحمل.
يقول الباحث الرئيسي في الدراسة، جاك ديفلين من جامعة كنتاكي: «نطلق عليها كائنات شديدة التحمل، فهي قادرة على التكيف مع البرودة القارسة، والجفاف، وارتفاع الملوحة، والتقلبات الحادة في درجات الحرارة، والأشعة فوق البنفسجية».
ويضيف: «كان السؤال الأساسي: هل تحميها هذه الصلابة من ضغط جديد مثل الميكروبلاستيك، أم تجعلها أكثر عرضة لشيء لم تواجهه من قبل؟»
كيف يصل البلاستيك إلى أنتاركتيكا؟
رغم عزلتها، لا تنفصل أنتاركتيكا عن النظام البيئي العالمي، فالرياح تنقل الجسيمات عبر المحيطات، والتيارات البحرية تحرك المخلفات بين القارات، كما تسهم السفن البحثية والمحطات العلمية في ضغوط محلية إضافية.
وسبق أن رُصد التلوث البلاستيكي في الثلوج ومياه البحر في أنتاركتيكا، لكن التربة لم تحظَ بالاهتمام الكافي، هذا النقص دفع الباحثين إلى دراسة الكائنات البرية عن قرب، لمعرفة ما إذا كان الميكروبلاستيك يؤثر في حشرة متكيفة أصلًا مع ظروف قاسية.
نتائج غير متوقعة
في المختبر، عرّض العلماء يرقات الحشرة لمستويات مختلفة من الميكروبلاستيك تحاكي ظروفًا واقعية. وكانت النتيجة مفاجئة.
يقول ديفلين: «حتى عند أعلى تركيزات البلاستيك، لم تنخفض معدلات البقاء على قيد الحياة، ولم يتغير معدل الأيض الأساسي».
بدا الأمر وكأن البلاستيك غير ضار، لكن هذا الانطباع لم يصمد طويلًا، فقياسات أدق كشفت أن اليرقات التي تعرضت لمستويات أعلى من البلاستيك خزنت كميات أقل من الدهون، بينما ظلت مستويات البروتينات والكربوهيدرات شبه ثابتة.
وتُعد الدهون عنصرًا حاسمًا لبقاء الحشرة خلال فترات التجمد الطويلة، ما يعني أن انخفاضها قد يضعف قدرتها على الصمود مع مرور الوقت.
دليل من البرية
انتقل الباحثون بعد ذلك من المختبر إلى الطبيعة، لمعرفة ما إذا كانت اليرقات البرية تبتلع الميكروبلاستيك بالفعل. وخلال رحلة بحثية عام 2023، جُمعت عينات من 20 موقعًا في 13 جزيرة مختلفة.
وأظهرت تحليلات متقدمة لمحتويات الجهاز الهضمي أن اثنتين من أصل 40 يرقة احتوتا على شظايا بلاستيكية دقيقة، وهي جسيمات لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة.
لماذا تمثل الكميات الصغيرة خطرًا؟
يؤكد ديفلين أن مستويات التلوث البلاستيكي في أنتاركتيكا لا تزال أقل بكثير مقارنة ببقية أنحاء العالم، وهو ما يُعد خبرًا إيجابيًا. لكنه يحذر من أن دخول البلاستيك إلى النظام البيئي، حتى بكميات محدودة، قد يخل بتوازن الطاقة لدى هذه الحشرات إذا ارتفعت المستويات مستقبلًا.
وتستغرق يرقات Belgica antarctica نحو عامين لإكمال دورة حياتها، ما يزيد من مدة التعرض ويجعل تراكم البلاستيك احتمالًا قائمًا، ومع غياب مفترسات برية معروفة، قد يبقى البلاستيك داخل النظام الترابي.
إلى جانب ذلك، يفرض تغير المناخ ضغوطًا إضافية، مع ارتفاع درجات الحرارة وزيادة الجفاف، وهي عوامل تهدد بقاء هذه الحشرة الفريدة.
إنذار مبكر من أصغر الكائنات
يختتم ديفلين قائلًا: «اعتقدت في البداية أن أنتاركتيكا ستكون آخر مكان يواجه هذه المشكلة، لكنك تعمل مع هذه الحشرة المذهلة في بيئة شبه خالية من الحياة، ثم تكتشف وجود بلاستيك في أمعائها، فتدرك مدى اتساع نطاق التلوث».
الدراسة، المنشورة في دورية Science of The Total Environment، تُعد جرس إنذار مبكرًا، وتؤكد أن أصغر الكائنات الحية قد تكشف أحيانًا عن أعمق آثار النشاط البشري على كوكب الأرض.





