الثقافة الخضراء الزائفة.. كيف يخفي الاستهلاك الأخضر فشل السياسات المناخية
إعادة الاستخدام أم تحويل النفايات؟ الخطر المخفي وراء الموضة المستدامة والأجهزة المعاد تجديدها
على مدى أجيال، كان إعادة استخدام الموارد مسألة بقاء: كانت الملابس تُصلح، والأشياء تُرمم، ولم يُرمَ أي شيء صالح للاستخدام. اليوم، تحمل الأسواق الحديثة لمفهوم الاستهلاك الواعي، مثل أسواق الملابس المستعملة في بروكلين، والمشروعات المؤقتة لإعادة بيع الملابس في لندن، والهواتف الذكية المجددة في برلين، هالة أخلاقية تخفي مصير هذه السلع عند عدم بيعها أو تركها غير مرغوبة.
ما يبدو مستدامًا في نيويورك قد يتحول إلى ضغط على مدافن النفايات، وتلوث سام، وتآكل اقتصادي في أكرا، لاجوس، كراتشي، وغيرها من المدن النامية.
أزمة النفايات النسيجية العالمية
تنتج صناعة الأزياء حول العالم نحو 92 مليون طن من نفايات النسيج سنويًا، مع توقعات بزيادة تصل إلى 134 مليون طن بحلول 2030.
نسبة كبيرة من الملابس “المتبرع بها” في أوروبا وأمريكا الشمالية لا يُعاد استخدامها محليًا؛ إذ تشير الدراسات إلى أن نحو 70% تُصدر إلى الأسواق الإفريقية والآسيوية، وحدها غانا تستقبل نحو 15 مليون قطعة ملابس أسبوعيًا.
لكن الحقيقة المخفية، أن نحو 40% من هذه الملابس غير صالحة للارتداء – تالفة بالعفن، مهترئة، أو قطع صناعية لا يمكن إعادة بيعها، تتكدس هذه المواد في مكبات النفايات أو تتسرب إلى المجاري والأنهار، لتتحلل تدريجيًا إلى ميكروبلاستيك، في حين تقلصت صناعة الغزل والنسيج المحلية التي كانت توظف 30 ألف عامل في ثمانينيات القرن الماضي، إلى أقل من 2000 اليوم.
وتتكرر هذه الظاهرة في كينيا ونيجيريا وتنزانيا وأوغندا، حيث أصبحت الإنتاجية المحلية غير قادرة على المنافسة أمام الملابس المستوردة الرخيصة.

الأجهزة المعاد تجديدها: حل أم وهم؟
سوق الأجهزة المعاد تجديدها يُسوَّق كحل لمشكلة الاستهلاك السريع، إلا أن الاستدامة فيه ليست واضحة، كثير من الهواتف “المجددة” تكون قديمة في الغلاف فقط، فيما تحتوي داخليًا على بطاريات ورقائق وشاشات جديدة، ما يحافظ على طلب الموارد الأولية.
70% من الكوبالت المستخدم في بطاريات الليثيوم يأتي من جمهورية الكونغو الديمقراطية، ويُستخرج 15-30% منه في ظروف تعدين حرفية تفتقر إلى حماية عمالية وسلامة بيئية.
بينما يتجاوز حجم النفايات الإلكترونية عالميًا 50 مليون طن سنويًا، يُعاد تدوير نحو 22% فقط رسميًا، فيما يُعالج الباقي بشكل غير رسمي في غانا وباكستان والهند، حيث يحرق العمال الأسلاك لاستخراج النحاس ويتعاملون مع شاشات مكسورة ومواد سامة بلا حماية.

الثقافة مقابل البقاء
في الدول النامية، تبقى السلع المستعملة شريان حياة، توفر وصولًا لملابس وأجهزة بأسعار معقولة. أما في الغرب، فقد تحوّل “الثريفتينج” إلى نمط حياة، حيث تصبح الملابس القديمة سلعة مُنسَّقة، ويُسوَّق لها عبر منصات مثل Depop وVinted على أنها علامة ذوق ووعي بيئي.
في سوق كانتامانتو بأكرا، يعمل نحو 30 ألف تاجر وخياط لاسترجاع قيمة الملابس المستوردة، لكنهم يتحملون المخاطر الاقتصادية بالكامل عند اكتشاف أن البالّة تحتوي على نفايات غير قابلة للبيع.

العمال الخفيون والأخطار البيئية
العمال في هذه الأسواق، وخاصة الناقلون والمراهقون، يحملون أطنانًا من الملابس مقابل أجور زهيدة. أما عمال النفايات الإلكترونية في لاجوس ودلهي، فيتعرضون يوميًا للزئبق، والرصاص، وغبار الليثيوم، والأحماض، وحرائق البلاستيك المفتوحة. رغم ذلك، لا يظهر هؤلاء في برامج الاستدامة أو سياسات “الاقتصاد الدائري”، ولا تُغطيها المبادرات الرسمية مثل قانون EU Right-to-Repair.
رمزية الفعل الفردي مقابل المساءلة الهيكلية
تركز رسائل المناخ على تغيير سلوك الفرد من خلال إعادة التدوير أو استخدام القش الورقي، وكأن الفضيلة الشخصية يمكن أن تُقلل الانبعاثات العالمية.
في المدن الإفريقية، تضاف إلى ذلك برامج جمع البلاستيك وحملات تنظيف الشواطئ، لكنها لا تسهم إلا بنسبة ضئيلة في خفض الانبعاثات، في حين تظل مصادر الانبعاثات الرئيسية: استخراج الوقود الأحفوري، الاحتراق، إزالة الغابات، والزراعة كثيفة الكربون.

من يستفيد ومن يتحمل الأثر
يستفيد من سردية الاستدامة الزائفة شركات الأزياء السريعة، ومصنعو الإلكترونيات، وحكومات الشمال العالمي، بينما يتحمل الجنوب العالمي الأعباء: النفايات، التلوث، تفشي الأمراض، وتآكل الصناعات المحلية.
الإصلاح الهيكلي ضرورة عاجلة
الحل يتطلب إعادة تصميم المنتجات لتكون قابلة للإصلاح، وتحمل الشركات مسؤولية كاملة عن النفايات الناتجة عن منتجاتها، ومنع تصدير النفايات على أنها “تبرعات”، ودعم الصناعات المحلية وإعادة التدوير المجتمعي، وضمان حقوق وسلامة العمال في قطاعات الإصلاح وإعادة الاستخدام.
الاستدامة الحقيقية لن تتحقق بالأفعال الرمزية الصغيرة، بل بالتنظيم الصارم والمساءلة المؤسسية، وإعادة توزيع الأعباء البيئية بعدالة. حتى مع ثقافة التوفير أو الأجهزة المجددة، ما لم تُوقف التوسعات في الوقود الأحفوري، فإن أزمة المناخ لن تُحل، وستظل جهودنا مجرد “بروفات” للبيئة دون تأثير حقيقي.






