د.فوزي يونس: من الشكوك إلى التريليونات.. كيف يستعد سوق أرصدة الكربون للانطلاق الكبير؟
أستاذ بمركز بحوث الصحراء- خبير العمل المناخي والاستدامة
شهد سوق تعويضات الكربون خلال العقد الماضي تقلبات حادة، حيث كافح من أجل مصداقيته بعد فضائح “السلع غير المرغوب فيها” وانهيار مشاريع كبرى لم تقدم الوعود البيئية المعلنة.
إلا أن البيانات الصادرة حديثًا لعام 2025 ترسم صورة مختلفة تمامًا، تشير إلى نقطة تحول تاريخية. بعد سنوات من الشكوك، يبدو أن السوق يستعد لمرحلة من “النمو الهائل”، كما تصفها هانا هاومان من بلومبيرج، مدفوعة بقوانين جديدة واستثمارات غير مسبوقة.
1. ما هي تعويضات الكربون؟
قبل الخوض في الأرقام، من الضروري فهم طبيعة هذه السلعة.
-
التعريف: تعويضات الكربون (أرصدة الكربون) هي شهادات قابلة للتداول تمثل تخفيضًا أو إزالة لطن واحد من مكافئ ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي. تنتج هذه الأرصدة من مشاريع محددة مثل:
-
مشاريع الطاقة المتجددة (الطاقة الشمسية والرياح).
-
مشاريع الحفاظ على الغابات وإعادة زراعتها.
-
مشاريع التقاط الكربون من الهواء أو تحسين كفاءة الطاقة.
-
-
آلية العمل: تسمح هذه الأرصدة للشركات أو الدول “بتعويض” الانبعاثات التي لا يمكنها التخلص منها مباشرة من خلال دعمها ماليًا لمشاريع خفض الانبعاثات في مكان آخر.
-
السوق المزدوج: ينقسم السوق إلى قسمين رئيسيين:
-
سوق الامتثال (الالتزامي): تفرضه الحكومات على قطاعات معينة، مثل صناعة الطاقة، حيث يكون للشركات سقف محدد للانبعاثات.
-
السوق الطوعي: تشارك فيه الشركات طواعية لتحقيق أهدافها البيئية والاجتماعية (ESG) والوصول إلى الحياد الكربوني.
-
2. أدلة النمو الهائل: الأرقام تتحدث
البيانات الصادرة عن “مؤشر أسواق الكربون MSCI” تظهر قفزات غير مسبوقة:
-
الاستخدام القياسي: استخدمت الشركات أرصدة الكربون لتعويض الانبعاثات في النصف الأول من 2025 أكثر من أي فترة سابقة منذ 2010. يشير ذلك إلى أن الضغوط التنظيمية والمجتمعية تدفع الشركات إلى التحرك الفعلي، وليس مجرد الإعلان عن الأهداف.
-
طفرة في التمويل: بلغ حجم رأس المال المخصص علنًا لتمويل مشاريع أرصدة الكربون حوالي 10 مليارات دولار في النصف الأول من 2025، أي أكثر من ثلاثة أضعاف المبلغ المخصص خلال نفس الفترة من 2024.
هذا التدفق الهائل للاستثمار يعكس ثقة المستثمرين في أن سوق الكربون سيصبح صناعة رئيسية في المستقبل القريب، وهو ما يتوافق مع توقعات شركة “ترافيجورا”، إحدى أكبر شركات تجارة السلع في العالم، بأن السوق قد يصل إلى تريليون دولار.

3. محركات النمو: لماذا الآن؟
هناك عدة عوامل تكاملية تدفع هذا النمو:
-
القوانين التنظيمية الجديدة في آسيا: تقود الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية تبني أنظمة قيود أو ضرائب على الانبعاثات، ما يخلق سوقًا إلزاميًا ضخمة.
-
السباق نحو “صافي الصفر” (Net Zero): التزمت آلاف الشركات عالميًا بأهداف الحياد الكربوني، ما يجعل التعويضات أداة ضرورية لسد الفجوة بين الانبعاثات الحالية وأهداف “صفرية”.
-
تطور معايير الجودة: بعد سنوات من الانتقادات حول “السلع غير المرغوب فيها” و”الغسل الأخضر”، بدأت المعايير والمشاريع في النضوج، مع ظهور بروتوكولات صارمة لضمان أن كل رصيد كربون يمثل تخفيضًا حقيقيًا ودائمًا للانبعاثات.
4. التحديات والمخاطر: دروس من الماضي
رغم التفاؤل، لا يزال السوق يواجه عقبات جسيمة:
-
إرث “السلع غير المرغوب فيها”: الأرصدة التي لا توفر فوائد مناخية حقيقية تهدد مصداقية السوق.
-
انهيار مشاريع ضخمة: مثل مشاريع حماية غابات الأمازون التي فشلت في الماضي، مسببة خسائر ضخمة دون تحقيق الفوائد البيئية.
-
الغسل الأخضر (Greenwashing): خوف من أن تستخدم الشركات أرصدة رخيصة لتبرير استمرار التلوث بدل الاستثمار في خفض الانبعاثات الأساسية.

5. الخلاصة والتوقعات المستقبلية
تشير المعطيات إلى أن سوق أرصدة الكربون يقف عند مفترق طرق. التدفق الاستثماري الهائل والاستخدام القياسي من قبل الشركات، مدعومًا بموجة تنظيمية في آسيا، يضعان الأساس لسوق محتمل يصل إلى تريليون دولار.
نجاح السوق ومساهمته الحقيقية في مكافحة تغير المناخ يعتمد على:
-
صرامة المعايير وشفافية المشاريع.
-
أولوية خفض الانبعاثات عند المنبع على الاعتماد على التعويضات.
-
التعلم من أخطاء الماضي لضمان ألا تتحول “الطفرة” إلى “فقاعة” أخرى.
إذا استطاع السوق تجاوز تحديات المصداقية، فقد يصبح أحد أهم الأدوات المالية في المعركة العالمية ضد تغير المناخ.




