أجسادنا ما زالت تعيش في الطبيعة بينما عقولنا عالقة في صخب الحداثة
إنذار علمي.. ضغوط العصر الحديث تفوق قدراتنا البيولوجية.. علماء يكشفون «عدم التوافق التطوري»
تطرح مراجعة علمية حديثة رؤية نقدية جريئة لسؤال بسيط لكنه واسع الدلالة: لماذا يبدو الإنسان المعاصر مرهقًا جسديًا ونفسيًا رغم التقدم المذهل في التكنولوجيا والطب ورفاهية الحياة اليومية؟
الإجابة، وفقًا لفريق من علماء الأنثروبولوجيا التطورية، تكمن في فجوة عميقة بين الإيقاع السريع للحداثة والإيقاع البطيء لبيولوجيا الإنسان.
فبينما تغيّرت المدن والآلات وأنماط العمل والتغذية خلال بضعة قرون فقط، فإن الجهاز العصبي والمناعي والغدد الصماء لا تزال تعمل وفق «البرمجة التطورية القديمة» التي تكرست على مدى مئات الآلاف من السنين.
هذه البرمجة صُمِّمت للتعامل مع تهديدات حادة وقصيرة، لكنها تواجه اليوم منظومة كاملة من الضغوط المنخفضة الحدة، المستمرة، والمتراكمة.
من مواجهة المفترس إلى مواجهة الحياة اليومية
في زمن الإنسان القديم، كان الضغط العصبي يظهر في لحظات نادرة: صوت حيوان مفترس، أو مواجهة مباشرة مع خطر طبيعي، تشتعل استجابة «الكرّ والفرّ»، يرتفع الأدرينالين والكورتيزول سريعًا، ثم يعود الجسم إلى نقطة التوازن فور انتهاء الخطر.
لكن في العصر الحديث، لم تتغير تلك الآلية، بينما تغير كل شيء من حولها.
فصوت البوق في شارع مزدحم، رسالة عاجلة من المدير، ضوء الهاتف في منتصف الليل، شاشات متوهجة لا تهدأ، هواء محمّل بالملوثات، ووجبات شديدة التصنيع، كلها أصبحت «مفترسات صامتة» تطلق الجهاز العصبي الودي على مدار اليوم.
يوضح دانيال لونجمان، أن الإنسان الآن يعيش «محاكاة دائمة للخطر»، حيث يتفاعل الجسم بالطريقة نفسها التي كان يتفاعل بها أمام الأسد، لكن الفارق أن الخطر لا يزول، وبالتالي لا تحدث مرحلة التعافي الضرورية.

كيف يتحول الضغط من استجابة تكيفية إلى مرض مزمن؟
يؤكد الباحثان أن المشكلة ليست في الضغط ذاته، فهو آلية حيوية أساسية، بل في استدامته، وعندما يظل الجهاز العصبي في حالة استنفار، تحدث سلسلة من الاضطرابات الفسيولوجية:
- ارتفاع مستمر في ضغط الدم
- خلل في تنظيم السكر بالجسم
- تراجع جودة النوم وتفتت مراحله
- تنشيط الالتهاب منخفض الدرجة
- زيادة حساسية الجهاز المناعي أو دخوله في حالة خلل وظيفي
- اضطرابات المزاج، بما في ذلك القلق والاكتئاب
ومع إضافة عوامل البيئة الصناعية، مثل الضوضاء المستمرة، الجسيمات الدقيقة، الميكروبلاستيك، وتراكم التعرض للمواد الكيميائية، تتضاعف المخاطر بطريقة تتجاوز قدرة الجسم على التكيف.
أثر صناعي يمتد إلى جذور الحياة: التكاثر
لا يتوقف عدم التوافق التطوري عند حدود الصحة العامة، بل يمتد إلى التكاثر ذاته.
فالمؤشرات العالمية تُظهر:
- تراجعًا تدريجيًا في عدد الحيوانات المنوية لدى الرجال منذ منتصف القرن العشرين
- انخفاضًا في معدل الخصوبة في العديد من الدول
- في متوسط عمر الإنجاب الأول لدى النساء
- تزايدًا في مشكلات الخصوبة المرتبطة بالهرمونات والبيئة
ويشير كولين شو إلى أن الحديث عن «أزمة عالمية في صحة الرجل الإنجابية» لم يعد تهويلًا؛ إذ تُظهر الأدلة المتراكمة ارتباطًا وثيقًا بين السلوكيات الحضرية والمواد الكيميائية الصناعية وبين جودة السائل المنوي.
لماذا نعجز عن التكيف؟
من منظور تطوري، يحتاج التكيف البيولوجي إلى عشرات الآلاف من السنين. أما الثقافة، بما فيها المدن، والوظائف، والغذاء، والإيقاع اليومي، فتتغير خلال أجيال قليلة.

هذا «الاختلال السرعاتي» يجعل الإنسان حبيسًا بين بيولوجيا قديمة وبيئة جديدة:
بيولوجيا تعمل وفق منطق الطبيعة، وبيئة تعمل وفق منطق الصناعة.
من هنا، يستحيل على الإنسان أن «يتطور» بسهولة ليتناسب مع إيقاع الحياة الحديثة، ما لم تُعاد هندسة البيئة نفسها لتصبح أكثر ملاءمة لقدراته الفسيولوجية.
الطبيعة كدواء.. والمدينة كمختبر لإعادة التوازن
يدعو الباحثان إلى إعادة بناء العلاقة بين الإنسان والطبيعة، لا من باب الترفيه، بل من باب الصحة العامة.
فالمساحات الخضراء والمياه المفتوحة والظلام الليلي الحقيقي ليست رفاهية، بل عناصر بيئية يحتاجها الجهاز العصبي كما يحتاج الرئتان الهواء.
وتقترح الدراسة خطوات عملية لإعادة تصميم المدن:
- تخفيف الإضاءة الليلية الاصطناعية
- الحد من الضوضاء في الشوارع
- زيادة الغطاء الشجري وإنشاء ممرات بيئية
- تحسين جودة الهواء عبر مكافحة مصادر الانبعاث
تصميم أحياء قابلة للمشي خلال 15 دقيقة
- توفير أغذية أقل تصنيعًا وأكثر قربًا من صورتها الطبيعية
- دمج مساحات زرقاء وخضراء قادرة على خفض مؤشرات الضغط العصبي
هذه التغييرات لا تتطلب إسقاط التكنولوجيا، بل تتطلب «تهذيب الحداثة» بحيث تنسجم مع البيولوجيا بدلًا من أن تصطدم بها.
– نحو روتين يومي ينسجم مع جذور الإنسان
يدعو الباحثان إلى تحويل نظرية عدم التوافق التطوري من إطار نظري إلى ممارسات قابلة للتطبيق. وتشمل هذه الممارسات:
- السماح للضغط بأن يأتي على شكل نبضات قصيرة بدلًا من التوتر الدائم
- النوم في ظلام كامل للحفاظ على الساعة البيولوجية
- الحركة المستمرة خلال اليوم بدل الجلوس المطول
- تناول الغذاء الطبيعي غير شديد التصنيع
- زيارة المساحات الخضراء والمائية بانتظام لتعزيز تهدئة الجهاز العصبي
- تقليل التعرض للشاشات خاصة قبل النوم
الخلاصة: المشكلة ليست في الحداثة.. بل في عدم ملاءمتها لأجسادنا
الرسالة الأساسية للدراسة ليست أن العالم الحديث «سيئ»، بل أنه غير متوافق مع ما صُمّم له الإنسان بيولوجيًا.
وما لم تتغير بيئاتنا، من المنازل إلى أماكن العمل إلى المدن، سيظل الجهاز العصبي يفسّر كل محفز حديث بوصفه «أسدًا» لا يغادر المكان.
الدراسة نُشرت في دورية Biological Reviews، وتقدم منظورًا تطوريًا عميقًا يساعد على فهم السؤال الأكثر إلحاحًا في عصرنا: لماذا نشعر بكل هذا الضغط؟ وما الذي يجب تغييره؟





