الطحالب في الفضاء.. تبقى الجراثيم على قيد الحياة 9 أشهر خارج محطة الفضاء الدولية
علماء: الطحالب قد تصبح شريكًا أساسيًا في إنتاج الأكسجين وتكوين التربة في مستعمرات الفضاء المستقبلية
في خطوة علمية تعزز آفاق استيطان البشر للكواكب البعيدة، كشف فريق دولي من الباحثين، أن جراثيم طحلب دقيق تُعرف باسم Physcomitrella patens استطاعت النجاة من رحلة غير مسبوقة استمرت تسعة أشهر على السطح الخارجي لمحطة الفضاء الدولية، رغم تعرضها لشروط قصوى تشمل الإشعاع المباشر ودرجات الحرارة المتباينة والفراغ والقصف المستمر للأشعة الكونية.
ويمثل هذا الإنجاز العلمي محطة مهمة في فهم قدرة الأنظمة البيولوجية الصغيرة على التكيف مع الفضاء، وفتح الباب أمام استخدام الطحالب في بناء نظم دعم الحياة في مهمات طويلة المدى، مثل مهمات القمر والمريخ.
فالطحالب، رغم كونها غير صالحة للاستهلاك البشري، تُعد من أوائل الكائنات القادرة على استعمار البيئات القاحلة، وتلعب دورًا محوريًا في إنتاج الأكسجين وتثبيت الرطوبة والمساهمة في تكوّن التربة.
مرونة غير مسبوقة لكائن دقيق
الدراسة، التي قادها الدكتور توموميشي فوجيتا من جامعة هوكايدو اليابانية ونُشرت في دورية Science، تكشف أن الجراثيم المحفوظة داخل تركيب طبيعي يدعى “الكيس البوجي” (Sporangium) أبدت مستويات عالية من الصمود، سواء في التجارب المحاكية لبيئة الفضاء على الأرض، أو خلال التجربة الفعلية خارج محطة الفضاء الدولية.
ويُعد هذا التركيب من أكثر البنى التكاثرية للكائنات النباتية صمودًا، إذ يوفر للجراثيم طبقة واقية تسمح لها بالدخول في حالة سكون جاف، تجعلها أقل عرضة للتلف عند التعرض للإجهاد الخارجي.
وقد أظهرت التجارب الأرضية قدرة هذه الجراثيم على النجاة من مستويات هائلة من الأشعة فوق البنفسجية تجاوزت 100 ألف جول لكل متر مربع، إلى جانب قدرتها على تحمل التجمد العميق، والفراغ الكامل، ودرجات الحرارة المرتفعة، وهي ظروف تحاكي العوامل التي تواجهها الكائنات الحية في الفضاء المفتوح.

تجربة فضائية على هيكل محطة الفضاء الدولية
أُرسلت العينات على متن مركبة الإمداد “سيجنوس NG-17 “، قبل تثبيتها في حوامل خاصة على السطح الخارجي لمحطة الفضاء الدولية.
وقد جرى توزيع الجراثيم على مرشحات مختلفة تتحكم في درجة التعرض للضوء والإشعاع.
وخلال تسعة أشهر، تعرضت العينات لإشعاع شمسي مباشر، ولتغيرات حرارية تصل إلى عشرات الدرجات بين ظل الأرض وضوء الشمس، فضلًا عن الأشعة الكونية عالية الطاقة.
وعند عودة العينات إلى الأرض، أظهر فحصها معدلات إنبات مرتفعة بشكل مفاجئ:
– 86% من الجراثيم التي تعرضت مباشرة للإشعاع فوق البنفسجي في الفضاء تمكنت من الإنبات.
– 97% من الجراثيم التي بقيت على الأرض أظهرت إنباتًا طبيعيًا.
ورغم هذا النجاح اللافت، رصد الباحثون درجات متفاوتة من تدهور جزيء الكلوروفيل في العينات الفضائية، وهو ما يعكس تأثير الإشعاع الشمسي المباشر، لكنه لم يكن كافيًا لمنع الجراثيم من استعادة نشاطها الحيوي عند توافر الماء والظروف المناسبة على الأرض.

خطوة أولى نحو استيطان الكواكب
يرى فوجيتا أن هذا الصمود المذهل لا يعني أن الطحالب قادرة على النمو بشكل طبيعي على الكواكب الأخرى، لكنه يشير إلى أن هذه الجراثيم قد تلعب دورًا أساسيًا في تأسيس نظم بيئية بدائية خارج الأرض، خصوصًا في بدايات مشاريع الاستصلاح الكوكبي (Terraforming).
فالقدرة على النجاة خلال الرحلات بين الكواكب، ثم استعادة النشاط الحيوي، تمثل خطوة حاسمة في بناء منظومات تعتمد على النباتات في إنتاج الأكسجين وتثبيت الرطوبة وتحويل الصخور والغبار إلى تربة أولية قابلة للزراعة.
ومع ذلك، يشدد الباحثون على أن البيئة الخارجية لمحطة الفضاء الدولية، رغم قسوتها، ليست مرادفًا كاملًا لبيئة الفضاء العميق أو لسطوح الكواكب مثل المريخ، حيث تتنوع مستويات الإشعاع والغلاف الجوي والجاذبية.

تحفّظات علمية مهمة
الدكتورة أغاتا زوبانسكا من معهد «سيتي» ، التي لم تشارك في الدراسة، ثمّنت نتائج البحث، لكنها شددت على أن مقاومة الجراثيم الجافة للظروف القاسية معروفة منذ عقود، وأن تجارب مشابهة أُجريت على بذور نباتات زراعية، بما في ذلك بذور مخصصة لزراعة المحاصيل في الفضاء.
وتؤكد زوبانسكا أن “القيمة الحقيقية للنباتات في الفضاء لا تُقاس بقدرتها على تحمّل الظروف القاسية فحسب، بل بقدرتها على النمو والازدهار بعيدًا عن الأرض”.
وتشير إلى أن التحدي الأكبر يكمن في تفاعل هذه الكائنات مع بيئات منخفضة الجاذبية، أو ذات غلاف جوي مختلف أو معدوم، فضلًا عن تأثير الإشعاع على المدى الطويل.
نحو بيولوجيا فضائية جديدة
يفتح هذا البحث الطريق أمام تجارب أكثر تعقيدًا حول قدرة الكائنات النباتية الدقيقة على التكيف في بيئات خارجية مختلفة، سواء على سطح القمر أو في مدارات بعيدة أو داخل أنظمة زراعية مغلقة.
كما قد يسهم في تصميم نظم حيوية تعتمد على الطحالب في إنتاج الأكسجين داخل المركبات الفضائية أو المستعمرات البشرية المستقبلية.
ويقول الباحثون إن الجراثيم التي اجتازت أصعب ظروف الفضاء واستعادت حياتها بمجرد ترطيبها، تذكّرنا بأن البدايات البيولوجية للأرض نفسها اعتمدت على كائنات دقيقة استطاعت النجاة في بيئات غير مضيافة، وهو ما يعيد صياغة تصورنا لإمكانية نقل الحياة بين الكواكب.





