خرسانة قابلة للتحلل تعيد الحياة للسواحل.. ابتكار يغيّر مستقبل حماية السواحل
مادة صديقة للبيئة تبني سواحل أقوى وتدعم عودة الشعاب والمحار
تواجه المناطق الساحلية ضغوطًا متزايدة مع اشتداد العواصف وارتفاع مستوى سطح البحر واستمرار توسع العمران نحو الشواطئ.
ورغم حاجة السواحل إلى الحماية، فإن الطرق التقليدية المستخدمة لبناء الهياكل الدفاعية تتسبب في مشكلات بيئية كبيرة.
فالهياكل الخرسانية مثل الحواجز البحرية تؤدي دورها الدفاعي، لكنها ترتبط بانبعاثات مرتفعة من ثاني أكسيد الكربون، إضافة إلى ترك أسطح صلبة غير مناسبة لنمو الكائنات البحرية.
ولهذا بدأ مهندسو السواحل وعلماء البيئة في طرح سؤال مهم: هل يمكن للهياكل المخصصة للحماية أن تساعد أيضًا في استعادة الطبيعة؟

مواد ساحلية مبتكرة
في أحد المعاهد البحرية الهولندية، يعمل العلماء على تطوير مادة «زيريتون»، وهي بديل منخفض الكربون للخرسانة، يمكن ضبط درجة قابليته للتآكل.
ونُشرت الدراسة الكاملة في دورية Frontiers in Marine Science.
تُصنع هذه المادة من الأعشاب المجففة المفرومة والبوزولان البركاني والجير المطفأ والأصداف والرمال ومياه البحر.
وعلى عكس الخرسانة التقليدية، تمتص زيريتون ثاني أكسيد الكربون أثناء تصلبها.
اختبر باحثو معهد NIOZ عدة تركيبات من زيريتون لدعم استعادة الموائل الساحلية مثل المستنقعات الملحية وشعاب المحار.
تقوم فكرة المادة على توفير بنية مؤقتة تُمكّن المحار والبلح البحري من التعلق بها، ما يساعد على إعادة بناء الشعاب الحيوية وقدرتها على أداء دورها البيئي.

اختبار المادة في ظروف المد والجزر
وُضعت كتل من زيريتون في إحدى مناطق المد والجزر قرب بلدة يرسِكه، حيث تغمرها المياه وتجف مرتين يوميًا.
وخضعت الكتل لظروف حقيقية تشمل التيارات والأمواج والعوالق البحرية.
وقالت الباحثة فيكتوريا ميسون إن نحو 70% من أسطح الكتل غُطيت بالكائنات الحية بعد عام واحد فقط، ما يُظهر ملاءمة المادة لتعزيز استيطان الكائنات البحرية واستعادة التنوع الحيوي.
كما يمكن ضبط مدة تحلل المادة بحيث تتفكك طبيعيًا بعد قدرة الشعاب على الاكتفاء الذاتي، دون أن تخلّف أي مخلفات ضارة.

اختلاف المكونات وتأثيرها
استُخدم في التجارب عشبتا السبارتينا الشائعة في المنطقة وعشبة الفيل، مع إمكانية استخدام أعشاب أخرى مثل القصب أو الخيزران بشرط حصادها بطريقة مستدامة.
وتتغير قوة المادة بحسب مدة التجفيف وكميات المكونات الرابطة، إذ تبلغ أقصى صلابتها بعد خمسة أسابيع. وتتميز زيريتون بقيمة pH تتراوح بين 8 و9، وهي أكثر ملاءمة للكائنات البحرية من الخرسانة التقليدية ذات القلوية العالية التي تصل إلى 13.

تحمل التيارات السريعة
اختُبرت قطع من زيريتون باستخدام جهاز Fast Flow Fume لتحاكي ظروف التعرية القوية.
وبعد 63 يومًا من الجريان السريع، حافظت المادة على قوتها، مقارنة بمواد أخرى مثل الخرسانة الرومانية. وأوضحت التجارب أن استخدام قوالب بسيطة مثل أكواب القهوة يساعد على تشكيل المادة بطرق مختلفة دون الحاجة لهياكل معقدة.
ما الذي يحتاجه البناؤون في المناطق الساحلية؟
تُعد المستنقعات الملحية وبنوك المحار من أهم النظم الساحلية القادرة على تهدئة الأمواج وتحسين جودة المياه وتخزين الكربون.
وحين يتدخل البشر لاستعادة هذه الموائل، فإن طبيعة المواد المستخدمة تُعد عاملًا حاسمًا.
وتشدد ميسون على ضرورة أن تكون المواد غير ضارة بيئيًا، وقابلة للتشكيل، ومؤقتة بحيث لا تتطلب إزالة مكلفة لاحقًا، إضافة إلى ضرورة أن تكون رخيصة وملائمة للاستخدام على نطاق واسع.
ويجري التخطيط لاختبار المادة في إنشاءات أكبر قادرة على كسر الأمواج، بحيث تعمل كدعامة شبه دائمة إلى أن تنمو الشعاب الطبيعية وتصبح قوية بما يكفي.
اختراع قديم يعود إلى الواجهة
ابتُكرت مادة زيريتون على يد المخترع السويسري فرانك بوخر الذي حصل على جائزة عام 2009 تقديرًا للفكرة.
ويؤكد بوخر أن المادة تصلح لبناء هياكل متعددة بحدود ثلاثة طوابق دون الحاجة للحرق أو استخدام مياه شرب نظيفة، إذ يمكن تصنيعها بمياه البحر أو مياه القنوات.
كما يرى أن الجمع بين الخشب وزيريتون ينتج هياكل أكثر متانة، إذ يدعم كل منهما الآخر.
ورغم عدم انتشار المادة في قطاع البناء التقليدي، فإن الاهتمام بها يتزايد في مشاريع استعادة السواحل، إذ يدرس باحثون في جامعة فان هال لارينستاين الهولندية إمكانية استخدامها ضمن مشاريع المياه.
وتقول ميسون إنها وجدت في العمل على زيريتون جانبًا عمليًا يتيح تقديم حلول واقعية قابلة للتطبيق عالميًا دون الإضرار بالبيئات الساحلية.
رؤية جديدة للبناء مع الطبيعة
يربط الباحث جيم فان بيلزن هذا النوع من الابتكارات بتحديات أكبر، إذ يشير إلى أن كتلة المباني التي شيدها البشر باتت تفوق الكتلة الحيوية لجميع الكائنات على الأرض، ما يجعل إعادة التفكير في طرق البناء ضرورة ملحة.
ويؤكد أن المواد الحيوية الجديدة التي تعتمد على الطبيعة ودوراتها ليست رفاهية بل حاجة عاجلة، خاصة في ظل تراجع التنوع البيولوجي عالميًا.
ويُنظر إلى زيريتون كأحد هذه الابتكارات الواعدة، إذ يجمع بين قوة الخرسانة وقدرتها على التشكيل وبين انخفاض أثرها البيئي. ويمكن استخدامها لتشكيل حواجز أمواج أو جدران بحرية أو شعاب صناعية تدعم العمليات الطبيعية بدلًا من عرقلتها.
ويرى الباحثون أن مستقبل حماية السواحل قد يصبح «أكثر خضرة» مما نعتقد.





