في الوقت الذي تتراجع فيه الولايات المتحدة عن التزاماتها المناخية، تواصل الصين ترسيخ مكانتها كقوة عالمية تقود التحول نحو الطاقة النظيفة، في مشهد يعيد رسم موازين الجغرافيا السياسية والاقتصاد العالمي.
شهدت العاصمة بكين الأسبوع الماضي عرضًا عسكريًا ضخمًا بمناسبة مرور 80 عامًا على نهاية الحرب العالمية الثانية، في استعراض للقوة التقليدية للدولة الآسيوية.
غير أن المشهد الأهم لم يكن في صفوف الجنود والدبابات، بل في المصانع والمزارع والمرافئ التي تُصدر للعالم توربينات الرياح والألواح الشمسية والسيارات الكهربائية، التي أصبحت السلاح الحقيقي للصين في معركة القرن الحادي والعشرين.
ففي حين يعتمد الاقتصاد الأمريكي على الوقود الأحفوري ويتراجع عن التزاماته البيئية، تسير الصين بثبات نحو مستقبل منخفض الكربون، بعد أن أصبحت المنتج والمصدّر الأول عالميًا لتقنيات الطاقة المتجددة.
قوة صاعدة من رحم التحول الأخضر
بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الصين نحو 12,969 دولارًا سنويًا، بينما تسجل الدولة نحو 11.9 مليار طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، أي ما يعادل 31.5% من الإجمالي العالمي.
لكن المفارقة أن بكين تقترب من نقطة التحول الكبرى التي قد تشهد ذروة انبعاثاتها خلال العام الجاري، تمهيدًا للانخفاض التدريجي في السنوات القادمة.
ويرى خبراء أن تحقق هذا السيناريو سيكون لحظة فارقة في التاريخ المناخي العالمي، تتجاوز رمزيًا انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من مفاوضات الأمم المتحدة للمناخ.
وتتجه الأنظار إلى الخطط الجديدة التي ستعلنها الصين قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر المقبل، ضمن المساهمات الوطنية المحددة (NDC) المنبثقة عن اتفاق باريس للمناخ، والتي قد تحدد مسار الكوكب بأسره في حدود 1.5 إلى درجتين مئويتين من الاحترار.
الطاقة النظيفة.. سلاح الصين الناعم
تمتلك الصين اليوم أكبر طاقة مركّبة من الرياح والطاقة الشمسية في العالم، متجاوزة هدفها الحكومي البالغ 1200 غيغاواط قبل ست سنوات من الموعد المحدد.
ولأول مرة في التاريخ، أصبحت الشركات الصينية الأربعة الكبرى تتصدر قائمة مصنعي توربينات الرياح عالميًا، إلى جانب سيطرتها شبه الكاملة على إنتاج الخلايا الكهروضوئية والسيارات الكهربائية.
يقول «لي شُو»، مدير مركز المناخ الصيني في مؤسسة آسيا سوسايتي”عندما نتحدث عن الطاقة النظيفة، لا يمكن الحديث عن منافسة حقيقية… هناك لاعب واحد فقط في الساحة، وهو الصين.”
وفي المقابل، تُظهر الولايات المتحدة مسارًا عكسيًا؛ إذ ألغت مشاريع طاقة نظيفة بقيمة 22 مليار دولار، وأغلقت مراكز أبحاث المناخ، بينما تعيد الترويج للغاز والفحم بوصفهما «محركات الازدهار».
بين الطموح والواقع
ورغم تقدمها الهائل في مجال الطاقة النظيفة، تواجه الصين انتقادات لاستمرارها في تمويل مشاريع الفحم الجديدة، بدعوى تأمين احتياجاتها من الطاقة خلال فترات الجفاف وانخفاض إنتاج الطاقة الكهرومائية.
لكن الاتجاه العام يبقى لصالح التحول الأخضر؛ فقد انخفضت حصة الوقود الأحفوري في مزيج الطاقة الصيني إلى أقل من 50%، بعد أن كانت تمثل ثلثي الإنتاج قبل عقد واحد فقط.
ويرى محللون أن الخطة الخمسية المقبلة (2026–2030) ستكون حاسمة في تحديد مدى التزام بكين بخفض الانبعاثات بنسبة تتراوح بين 8 و15%، مع احتمال أن تحقق نتائج أكبر من المتوقع، وفق سياسة “الوعود المتحفظة والإنجاز المفرط”.
شراكات خضراء وتحالفات دولية
تتخذ الصين اليوم موقعها كقائد فعلي للدول النامية في ملف المناخ، بعدما أصبحت ثاني أكبر ملوث تاريخي للكوكب، وفي الوقت نفسه أكبر ممول ومصدر للتكنولوجيا النظيفة.
ومع انعقاد مؤتمر المناخ «COP30» في مدينة بيليم البرازيلية، تعمل بكين على تعزيز تعاونها مع الاتحاد الأوروبي والبرازيل، ويتوقع أن تعلن عن استثمارات جديدة في مجالات الطاقة المتجددة ومبادرات حماية الغابات الاستوائية.
وتشير تسريبات دبلوماسية إلى أن الصين تدرس المساهمة في «صندوق الغابات الاستوائية للأبد»، الذي أطلقته البرازيل، كجزء من التزامها المتزايد بالتمويل المناخي العالمي.
المستقبل الأخضر في يد بكين
ورغم الجدل حول مدى كفاية التزاماتها، فإن الصين تمضي بثبات لتصبح القوة المهيمنة في سوق الطاقة النظيفة عالميًا.
فبينما يراهن البعض على عودة واشنطن، يؤكد الخبراء أن “المستقبل أصبح صينيًا” من حيث التكنولوجيا، والإنتاج، والتأثير المناخي.
وكما اختُزلت قيادة الطاقة في الماضي بيد الدول النفطية، يبدو أن القرن الجديد سيشهد زعامة بكين لعصر الشمس والرياح.
