كشف علماء الآثار عن مدينة مفقودة تعود إلى العصر البرونزي، ظلت مطمورة لأكثر من 3,500 عام في شمال شرق كازاخستان.
ويعيد هذا الاكتشاف، المعروف باسم سيميياركا أو “الوديان السبعة”، رسم صورة الحياة على سهوب أوراسيا، التي لطالما ارتبطت في الذاكرة التاريخية بمجموعات رعوية متنقلة ومستوطنات مؤقتة.
تشير نتائج البحث إلى أن سيميياركا كانت مستوطنة مخططة نشأت نحو عام 1600 قبل الميلاد، في مرحلة بدأ خلالها بعض سكان السهوب تبنّي أنماط أكثر استقرارًا.
وقد كشفت المسوحات عن شوارع محددة، ومنازل متجاورة ذات تخطيط داخلي معقّد، إضافة إلى منطقة صناعية واسعة كانت مخصَّصة لتصنيع البرونز.
وقد نُشرت النتائج الكاملة للدراسة في دورية Antiquity Project Gallery.
يمتد الموقع على مساحة تقارب 140 هكتارًا (346 فدانًا)، ما يجعله أكبر تجمع حضري من نوعه في المنطقة. ورغم رصده منذ أكثر من عقدين، فإن الكشف التفصيلي عنه ونشر نتائجه العلمية جاء حديثًا بعد إجراء مسوحات شاملة.
يقع الموقع على مرتفع يشرف على نهر إرتيش، وهو موقع استراتيجي يوفر رؤية واسعة للمسارات البرية والمائية عبر السهوب. ويعكس هذا الموقع المختار بعناية معرفة دقيقة بمسارات الحركة والتجارة في تلك الحقبة.
وتظهر على السطح صفوف طويلة من التلال الترابية المستطيلة، بارتفاع يقارب مترًا واحدًا، وهي أساسات منازل مقسّمة إلى غرف عدة، تشير إلى نمط سكني ثابت وليس مؤقتًا.
وفي وسط المستوطنة مبنى كبير يفوق المنازل حجمًا، يُعتقد أنه كان مركزًا للطقوس أو الاجتماعات، أو مقرًا لأسرة ذات نفوذ.

أبرز ما اكتُشف في سيميياركا
أما أبرز ما اكتُشف في سيميياركا فهو المنطقة الصناعية الواقعة جنوب شرقي المستوطنة، حيث عُثر على دلائل واضحة لورش متخصصة في تصنيع البرونز القائم على سبائك النحاس والقصدير.
وتتضمن المكتشفات أدوات صهر، وبقايا خبث معدني، وقطعًا مصنوعة من البرونز، ما يكشف عن نشاط صناعي منظم ومستمر، يتجاوز الصناعات المنزلية البسيطة.
وتبرز أهمية الموقع من قربه من مصادر النحاس والقصدير في جبال ألتاي، إلى جانب وجوده على طريق تجاري مائي مهم يمثل نهر إرتيش.
وقد جمع هذا الموقع بين المواد الخام، ومهارة الحرفيين، وشبكات التبادل، ما جعله مركزًا صناعيًا وتجاريًا إقليميًا.

أوائل المجموعات التي شيدت مستوطنات دائمة في المنطقة
وتشير المكتشفات إلى ارتباط السكان بثقافة أليكسييفكا–سارجاري، التي تُعد من أوائل المجموعات التي شيدت مستوطنات دائمة في المنطقة، بينما تحمل بعض القطع طابع ثقافات أكثر حركة مثل تقليد تشيركاسكول، ما يدل على وجود تبادل وتفاعل بين جماعات مختلفة.
واعتمد الفريق البحثي على تقنيات المسح الجيوفيزيائي، التي كشفت حدود المنازل والمرافق الصناعية عبر قراءة كثافة التربة وخصائصها المغناطيسية، إضافة إلى تحليلات معدنية دقيقة أعادت بناء مراحل تصنيع البرونز.
وأسهم تعاون متخصصين في الآثار والجيولوجيا والمعادن في وضع تصور شامل لتاريخ الموقع ووظائفه.

دراسة المواقع الجنائزية والمخيمات القريبة
ورغم هذا التقدم، لا تزال أسئلة عديدة مفتوحة، أبرزها كيفية تنظيم الإنتاج، ومن كان يتحكم في مصادر المعادن، ومدى تأثير النشاط الصناعي على البيئة المحلية.
كما يعمل الباحثون على دراسة المواقع الجنائزية والمخيمات القريبة لفهم طبيعة الحياة الاجتماعية وعلاقة التجمعات الصغيرة بالمركز الحضري.
ويقدم هذا الكشف رؤية جديدة لمفهوم المدن في السهوب الأوراسية، بوصفها مراكز مخططة تعتمد على الصناعة والتجارة، وليس على الهياكل الحجرية الضخمة أو الأسوار. ويؤكد اكتشاف سيميياركا أن مجتمعات السهوب كانت تمتلك أشكالًا حضرية متطورة تتوافق مع طبيعة بيئتها المفتوحة.





