عالم مائي خفي داخل الأشجار يحدد قدرة الغابات على الصمود أمام موجات الجفاف الطويلة
كشفت أبحاث جديدة عن وجود “عالم مائي خفي” داخل الأشجار يحدد قدرة الغابات الأوروبية على الصمود في وجه موجات الجفاف الطويلة والقاسية.
تشير الدراسة، التي نُشرت في مجلة Global Change Biology، إلى أن بقاء الغابات لا يعتمد فقط على نوع الشجرة، بل على الاستراتيجيات المائية المعقدة والخصائص الهيدروليكية (Hydraulic traits) التي تستخدمها كل شجرة لإدارة تدفق المياه وتخزينها والتحكم فيها.
محاور السلوك المائي في الأشجار
قام الباحثون في ساكسونيا-أنهالت بدراسة 2,611 شجرة من 10 أنواع أوروبية خلال الجفاف الشديد الذي ضرب المنطقة بين عامي 2018 و 2020. وحددوا محورين رئيسيين يصفان سلوك الشجرة المائي:
1. محور السلامة الهيدروليكية (Hydraulic Safety)
-
النوع الآمن: الأشجار التي تتمتع بسلامة هيدروليكية عالية تقاوم الانصمام (Embolism)، وهي حالة انسداد الأوعية الداخلية، مما يحافظ على عمل قنوات نقل المياه حتى في الظروف القاسية. هذه الأشجار غالباً ما تكون لها أنسجة كثيفة وتنمو ببطء نسبياً في الظروف العادية (مثل البلوط).
-
النوع الضعيف: الأشجار التي تضغط من أجل النمو السريع تحت الأمطار الطبيعية، لكنها تفقد وظيفتها أسرع عند تعرضها للجفاف لفترات طويلة (مثل البتولا).
2. محور التحكم في الثغور (Stomatal Control)
-
المتحكم: أنواع تغلق الثغور (المسام الصغيرة على الأوراق التي تطلق الماء) مبكراً بدقة، مما يحافظ على مستويات ماء أكثر أماناً داخل الشجرة، لكنه يبطئ عملية التمثيل الضوئي وبالتالي النمو.
-
المتحمل: أنواع تبقي الثغور مفتوحة لفترة أطول للحصول على نمو أسرع، لكنها تقبل مستويات جهد مائي أقل (Water potential)، مما يعرضها لخطر أكبر في الجفاف.
القاعدة الإيكولوجية: “لا توجد استراتيجية واحدة تؤدي دائماً إلى مزيد من النمو. فما هو غير مناسب في الظروف العادية يمكن أن يصبح ميزة حاسمة في سنوات الجفاف”، وفقاً لينا ساكسينماير، المؤلفة المشاركة في الدراسة.

دور “الجيران” في الصمود خلال الجفاف
أكد البحث أن الأشجار لا تواجه الجفاف كأفراد معزولين، بل يؤثر تنوع الجيران على نتائج بقائها:
-
الخليط الاستراتيجي يربح: الأشجار المحاطة بجيران لديهم استراتيجيات مائية مختلفة تماماً نمت بشكل أفضل خلال سنوات الجفاف. هذا التنوع يقلل من المنافسة المباشرة على الموارد، حيث تستخدم كل شجرة الماء بنمط فريد.
-
طبقة الحماية المؤقتة: يعمل وجود استراتيجيات مائية مختلفة في الغابة كطبقة أمان طبيعية (Buffer)؛ فالنوع الذي يغلق ثغوره مبكراً يقلل المنافسة على النوع الذي يبقيها مفتوحة. كما أن الأشجار ذات الجذور العميقة تسحب الماء من طبقات التربة السفلية، بينما تستخدم الأشجار ذات الجذور الضحلة الطبقات العلوية. هذا التباين يحافظ على استقرار الغابة.
خارطة طريق لبناء غابات مرنة
تُقدم هذه النتائج لخبراء الغابات مساراً جديداً لتخطيط تجديد الغابات في المستقبل لمواجهة تغير المناخ. يجب أن يتحول التركيز من مجرد تنوع الأنواع (Species diversity) إلى التنوع الوظيفي (Functional diversity).
وقال كريستيان فيرث، المؤلف المشارك في الدراسة: “تظهر دراستنا أن حماية الغابات في مواجهة تغير المناخ ليست مجرد مسألة تنوع الأنواع، بل أيضاً مسألة تنوع وظيفي”.
إن بناء غابات مرنة يتطلب إنشاء مجمعات مختلطة ذات خصائص مائية متباينة، مما يضمن بقاء بعض الأشجار قادرة على العمل والنمو حتى عندما تضطر أنواع أخرى إلى التباطؤ، مما يدعم نمواً مستقراً حتى مع تزايد ضغط الجفاف عبر القارة.





