د.رفعت جبر: من صندوق الاقتراع إلى بناء الوطن
أستاذ ورئيس قسم التقنية الحيوية- كلية العلوم- جامعة القاهرة
عملية الانتخابات لا تقتصر على وضع ورقة في صندوق؛ بل هي إعلان جماعي عن الاعتماد على النفس، وتكليف صريح لمن سيقومون ببناء صرح الوطن لئلا يغترب أهله.
فعندما يختار الشعب ممثليه في مجلس النواب، فإنه يفوضهم بالصلاحيات الدستورية اللازمة لترسيخ هذا البناء، جاعلًا من مهامهم النيابية أساسًا للأمن الاجتماعي والرضا العام.
إن الوطن ليس مجرد بقعة جغرافية، بل هو شعور داخلي بالاستقرار والانتماء والأمان.
فكم مرة شعرنا بالغربة ونحن في قلب أوطاننا؟ وكم مرة شعرنا بالانتماء العميق ونحن بعيدون آلاف الأميال عنها؟ هذا التناقض يدفعنا إلى إعادة تعريف مفهوم “الوطن”.
فالوطن الحقيقي الذي نبحث عنه جميعًا ليس خارجيًا يمكن أن يُسحب منا أو يُنتزع؛ بل هو الركن الثابت الذي تبنيه داخل نفسك، ويحتاج إلى العديد من الركائز، أهمها:
الركيزة الأولى: الاعتماد على النفس… بناء الأساس
أن تصنع لنفسك وطنًا يعني أن ترفض فكرة أن يكون استقرارك مرهونًا بأشخاص أو ظروف خارجية.
فالاعتماد على النفس ليس مجرد قدرة على الكسب أو حل المشكلات؛ بل هو القبول الكامل لمسؤولية سعادتك وأمنك. وعندما تعتمد على نفسك تكتشف ما يلي:
• قوتك الحقيقية: كل تحدٍّ تتجاوزه بمفردك يصبح لبنة في جدار وطنك الداخلي.
• التحرر من الانتظار: لا تنتظر الفرصة أو الدعم أو الموافقة من الآخرين لبدء مشروعك أو اتخاذ قرارك.
• الثبات الداخلي: إذا خسرت عملك أو صديقك أو موقعك، يظل أساسك الداخلي صلبًا لأنك تعلم أنك قادر على البناء من جديد.
إن القدرة على الاستناد إلى الذات هي أول معالم “وطنك”، وهي الضمانة ضد الغربة النفسية والعجز.
الركيزة الثانية: الرضا… الاستمتاع بالمنزل الذي بنيته
بعد بناء أساس الاعتماد على النفس، تأتي قيمة الرضا لتؤثث هذا الوطن وتجعله مكانًا مريحًا للعيش.
والرضا ليس قبولًا بالدونية أو توقفًا عن الطموح؛ بل هو تقدير ما تملك الآن، والنظر إلى النعم الصغيرة والكبيرة التي حققتها بنفسك، والشعور بالامتنان لها. ومن مزايا الرضا:
• القناعة بكفايتك: أن ترضى بأن إنجازاتك كافية، وأن مسيرتك فريدة، دون مقارنة دائمة بالآخرين؛ فالمقارنة هي طريق الغربة والشعور بالنقص.
• تذوّق السلام الداخلي: الرضا هو المفتاح الذي يغلق باب القلق على المستقبل والحسرة على الماضي، ويجعلك تسكن اللحظة الحالية بأمان.
إن الغريب هو من يبحث دائمًا عن الأفضل في مكان آخر، أما صاحب الوطن فهو من يجد الجمال والكفاية في المكان الذي صنعه لنفسه.
الانتخابات: صناعة الوطن في الإرادة الشعبية
لا شك أن الانتخابات النيابية هي اللحظة التي يقرر فيها الشعب من يمثله في بناء الوطن.
فهي أداة الاعتماد على النفس الجماعي، حيث يختار المواطنون ممثلين يثقون في قدرتهم على تحويل تطلعاتهم إلى واقع ملموس، بعيدًا عن انتظار الحلول من مصادر خارجية أو الاعتماد على الوعود الزائفة.
ولذلك كان على نواب الشعب إقامة ركائز الوطن؛ فعندما يفوز النائب، يجب أن يتراجع “وطنه الخاص” ليحل محله “وطن الأمة”.
وتصب واجبات النائب مباشرة في صميم بناء هذا الوطن القائم على العدل والاستقرار.
1. التشريع: بناء أساس القوة والاعتماد على الذات
واجب النائب الأول هو سن القوانين التي تمثل ركيزة الوطن. وتشمل التشريعات التي تحفز الاستثمار وتعزز الإنتاج المحلي، مما يحقق الاكتفاء الذاتي ويقلل الاعتماد على الخارج، إضافة إلى القوانين التي تضمن المساواة وتكافؤ الفرص وتحقيق العدالة، لأن العدل هو جوهر الرضا الشعبي.
2. الرقابة : ضمان الشفافية ومكافحة الغربة
الرقابة على السلطة التنفيذية هي الضمان ألا يغترب الوطن عن مبادئه وألا تُهدر ثرواته. وذلك من خلال مساءلة صارمة باستخدام الأدوات الرقابية مثل الاستجوابات وطلبات الإحاطة، لضمان أن تُنفق الموازنة العامة في ما يعود بالنفع على المواطنين، وترسيخ الاعتماد على النفس في إدارة الشأن العام. كما تشمل محاربة الفساد الذي يُعد الغربة الكبرى التي تجعل المواطن يشعر بأن حقوقه مسلوبة في وطنه.
3. التمثيل السياسي: تحقيق الرضا والاطمئنان
صوت الشعب يجب أن يكون حاضرًا في قبة البرلمان، إذ يمثل النائب دائرته دون إغفال الوطن الأكبر. ويتم عبر نقل هموم المواطنين وحاجاتهم الأساسية، مما يعزز الثقة بين المواطن والدولة.
فحين يرى المواطن أن صوته مسموع وخدماته الأساسية مُلبّاة، يتولد لديه شعور تلقائي بالانتماء والأمان.
كما تتطلب هذه المهمة نزاهة النائب وتجرده من المصالح الشخصية لصالح المصلحة العامة، حفاظًا على بناء الوطن.
الخاتمة
الوطن الحقيقي هو ما تبنيه داخل نفسك. فإذا أردت ألا تشعر بالغربة في هذا العالم المتغير، فابدأ اليوم في بناء وطنك الداخلي، واجعله مرادفًا لثقتك بنفسك وقدرتك على تجاوز الصعاب.
واجعل عنوانك هو هدوءك ورضاك. فحيث يزهر جهدك يطمئن قلبك وتستقر روحك.
وهكذا، فإن الهدف من أي انتخابات هو أن يختار الشعب من يجسد إرادته في بناء وطن قوي داخليًا وخارجيًا، وطن لا يشعر فيه المواطن بالغربة.
وفي الختام، تُوجَّه وصيته للنواب “اصنعوا لوطنكم ركائز القوة لكي لا يغترب أهله.”





