د.إلهام فاروق: هيئات التحقق والمصادقة.. الحارس الخفي لمصداقية الاستدامة والعمل المناخي

أستاذ التحكم في ملوثات الهواء- دكتوراة بالهندسه البيئيه جامعه تلوز بفرنسا

تزداد الضغوط على المؤسسات لتبني استراتيجيات بيئية فعالة، تبرز الحاجة إلى جهة محايدة تمتلك القدرة على قول الحقيقة كما هي، بعيدًا عن الأرقام التجميلية والتقارير المنمقة. هنا يظهر الدور الحاسم لـ هيئات التحقق والمصادقة (VVBs) التي أصبحت اليوم أحد أهم أعمدة الاستدامة العالمية.

فالمؤسسات لم تعد مطالَبة فقط بوضع خطط للحد من الانبعاثات أو الإعلان عن برامج خضراء، بل أصبحت مضطرة لإثبات دقة بياناتها البيئية وشفافيتها أمام الحكومات والأسواق والمجتمع الدولي. وفي هذا السياق، لم يعد قبول التقارير البيئية يعتمد على “الثقة” فقط، بل على أكداس من الأدلة والمراجعات العلمية التي تقدمها جهات مستقلة معتمدة.

– لماذا أصبحت VVB جزءًا من معادلة الاستدامة؟

تزايد الاعتماد العالمي على التقارير البيئية – سواء كانت تتعلق بالبصمة الكربونية، استهلاك المياه، كفاءة الطاقة، أو مؤشرات ESG – خلق تجارة ضخمة للمعلومات البيئية.
لكن المعلومة غير الدقيقة يمكن أن تؤدي إلى:

تضليل المستثمرين.

انحراف الاستراتيجيات الوطنية للمناخ.

فشل المشاريع الكربونية.

فقدان الثقة في أسواق الكربون الطوعية والإلزامية.

ولذلك جاءت هيئات التحقق والمصادقة لتكون العين الثالثة التي تفحص الأرقام، تختبر المنهجيات، وتعيد تقييم البيانات قبل اعتمادها.

VVB… دور أكبر من مجرد “مراجع- خارجي”

على خلاف ما يتصور البعض، فإن دور VVB يتجاوز كثيرًا فكرة مراجعة تقرير أو ختم وثيقة.
فهي تعمل على:

1. فحص حدود الانبعاثات بدقة

تشمل حدود التشغيل، وملكية الأصول، والمنشآت، والأنشطة المرتبطة بسلاسل التوريد في سكوب 3، وهو الأكثر تعقيدًا.

2. التأكد من مناهج جمع البيانات

هل تستخدم المؤسسة أجهزة قياس معتمدة؟
هل يتم حساب الانبعاثات وفق بروتوكول GHG؟
هل هناك سجلات يمكن تتبعها؟
أسئلة دقيقة لا تتهاون فيها جهات التحقق.

3. مراجعة مشاريع الكربون

خصوصًا في السوق الطوعية، حيث تقوم VVB بتقييم:

الإضافية (هل المشروع سيحدث بدون التمويل الكربوني؟)

خط الأساس (ما هو السيناريو المرجعي للانبعاثات؟)

نظام MRV (المراقبة والإبلاغ والتحقق)

وهي عناصر تمنع ظهور مشاريع “كربون وهمية”.

4. دعم تقارير الاستدامة ESG

أصبحت معظم المؤسسات الدولية لا تقبل أي تقرير ESG غير خاضع لتدقيق VVB:
فخطأ صغير في مؤشر بيئي قد يكلف المؤسسة ملايين.

– معايير عالمية… لوضع الجميع على الخط الأخضر نفسه

تعمل هيئات التحقق وفق مجموعة من المواصفات الدولية الصارمة، أبرزها:

ISO 17029 (التحقق والمصادقة العام)

ISO 14065 (للمشاريع الكربونية والانبعاثات)

GHG Protocol

معايير أسواق الكربون مثل Verra، Gold Standard، ART TREES

هذه القواعد تجعل عملية التحقق منهجية وعلمية ومتطابقة على مستوى العالم.

– التحديات… الطريق ليس ممهدًا

رغم أهميتها، تواجه VVB مجموعة من التحديات، منها:

نقص الكفاءات في القطاعات الجديدة مثل الهيدروجين الأخضر ووقود الطيران المستدام.

ارتفاع كلفة عمليات التحقق خاصة في الدول النامية.

صعوبة الحصول على بيانات دقيقة في بعض القطاعات الصناعية.

ضرورة إدارة تضارب المصالح لتظل عملية التحقق مستقلة تمامًا.

المستقبل يشير إلى توسع غير مسبوق في دور هيئات التحقق، خصوصًا مع دخول العالم في مرحلة “اقتصاد الحياد الكربوني” واعتماد معايير جديدة للإفصاح الإجباري مثل CSRD الأوروبية وIFRS-S.

ومع صعود الذكاء الاصطناعي، بدأت بعض VVB بإدماج تقنيات تحليل البيانات الذكية لرصد التلاعب واكتشاف الأخطاء في المنهجيات.

الاستدامة تحتاج من يشهد لها

فقد تقدم المؤسسات خططًا ضخمة وتقارير جذابة، وقد تتحدث عن مشاريع خضراء واستثمارات نظيفة…
لكن كل هذه الجهود تفقد قيمتها إذا لم يدعمها تحقق مستقل وشفاف.

إن هيئات التحقق والمصادقة اليوم ليست مجرد جزء تقني من منظومة المناخ، بل هي المرجع الأخلاقي والعلمي الذي يحفظ مصداقية العمل المناخي ويضمن أن الاستدامة ليست مجرد شعار… بل التزام يمكن قياسه والتحقق منه.

Exit mobile version