وجهات نظر

د.رفعت جبر: إصلاح التعليم الجذري.. من التلقين إلى التحرر العقلي وريادة المستقبل

أستاذ ورئيس قسم التقنية الحيوية- كلية العلوم- جامعة القاهرة

في زمن تتسارع فيه وتيرة التغير، لم يعد إصلاح التعليم مجرد رفاهية إدارية، بل أصبح ضرورة وجودية. فأنظمتنا التعليمية لا تعاني فقط من نقص في الموارد أو سوء التنظيم، بل من أزمة بنيوية أعمق: أزمة فصل بين “البنية” الصلبة للمؤسسات و”الوعي” المرن الذي يفترض أن تولده.

لقد استنفدت المحاولات التقليدية في الإصلاح طاقتها، تلك التي تركز على تحديث المناهج أو رقمنة الامتحانات فحسب. إننا نحتاج إلى مقترحات “خارج الصندوق” تدمج إعادة هيكلة السلطة داخل المؤسسة التعليمية مع مهمتها الأساسية في بناء عقل نقدي ومتحرر.

فالإصلاح الحقيقي يجب أن يبدأ بتحويل مجتمع المدرسة والجامعة من حقل للتلقين إلى مختبر للتفكير النقدي والمشاركة الفعلية.

دول رائدة: دروس في البنية والوعي

لم يعد الإصلاح مجرد نظرية، فهناك تجارب عالمية أثبتت أن النجاح يبدأ بتغيير البنية العميقة للنظام التعليمي، والتحول من النموذج التقليدي إلى نموذج التمكين:

  • فنلندا: تُعد مثالاً بارزاً للنجاح، إذ قللت من التركيز على الامتحانات الموحدة لصالح التقييم الشامل، ومنحت المعلمين والمدارس استقلالية كبيرة في اتخاذ القرارات، مما حول الفصول إلى بيئات تعلم نشط بعيداً عن التلقين.

  • سنغافورة: ركزت على تطوير التفكير النقدي والإبداعي ودمج مهارات القرن الحادي والعشرين في مراحل مبكرة، مما جعلها من بين الأوائل عالمياً في نتائج الاختبارات الدولية.

هذه الدول أدركت أن تمكين الأفراد هو جوهر الإصلاح. ولتفعيل هذا التمكين في سياقنا، يجب أن نبدأ بتحويل مركز القوة داخل المؤسسة التعليمية نفسها.

مقترحات جريئة لتحرير العقل من التلقين

1. تحويل الإدارة إلى مختبر للوعي النقدي

يكمن التحدي الأكبر في البنية الإدارية التي تمجد التسلسل الهرمي وتهمش صوت الطالب والمعلم. ولتجاوز ذلك، ينبغي اعتبار مجالس الإدارة في المدارس والجامعات نقاط انطلاق للإصلاح.

وبما أن الإصلاح يحتاج إلى تكامل بين البنية والوعي، فإن التوصية تنص على تحويل مجالس إدارات المؤسسات التعليمية إلى «مختبرات للوعي النقدي»، عبر إلزامها بإنشاء «مجلس الظل النقدي» يتكون من الطلاب والمعلمين (بتمثيل متساوٍ)، ويُمنح صلاحية حقيقية لتقييم المناهج وطرق التدريس والقرارات الإدارية، ليس فقط من منظور الكفاءة، بل من منظور التحرر من التلقين وتعزيز التفكير المستقل والعدالة الاجتماعية. وتكون تقارير هذا المجلس مُلزمة للنقاش والتصويت داخل المجالس الرسمية للمؤسسة.

2. تصفير التخصصات الجامعية: نموذج السنة التأسيسية للوعي

يجب إلغاء النموذج التقليدي الذي يُجبر الطالب على اختيار تخصصه المصيري عند دخول الجامعة. وبدلاً من ذلك، نقترح:

  • تطبيق «السنة التأسيسية للوعي (Consciousness Foundation Year)»، وهي سنة موجهة بالكامل نحو التفكير التكاملي ومهارات التحرر المعرفي. يدرس الطالب خلالها مواد تقاطعية إلزامية تشمل منهجيات التفكير النقدي، والتحليل الفلسفي، وتاريخ الأفكار، وعلوم البيانات.

  • تأخير التخصص: يتم تأخير الاختيار النهائي للتخصص حتى نهاية هذه السنة التأسيسية، مما يمنح الطالب النضج الكافي لاختيار مساره بناءً على الوعي والتحليل الذاتي، لا على الضغط الاجتماعي أو درجات الماضي.
    هذا النهج تتبعه جزئياً جامعات عالمية تتيح للطلاب استكشاف مجالات متعددة قبل إعلان التخصص النهائي.

3. دمج المستقبل في المنهج: الذكاء والفكر الأخضر

لم يعد التعليم مقتصراً على تخصصات العلوم والإنسانيات المنفصلة، بل يجب أن يركز على الأدوات والتحديات التي ستشكل مستقبل الكوكب.
ويقترح إدراج ثلاثة محاور أساسية بشكل إلزامي ومتقاطع في جميع المقررات الدراسية، من المدارس إلى الجامعات:

المحور الأول: الذكاء الاصطناعي والبيانات

  • الأهمية: لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تخصص تقني، بل مهارة تحليلية إلزامية في كل المجالات.

  • التطبيق: يتعلم الطالب كيفية استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لفحص مصادر المعلومات، وتحديد التحيزات، وتطوير نماذج لحل المشكلات المعقدة، ليصبح مستهلكاً ومنتجاً ذكياً للمعرفة.

المحور الثاني: الفكر والسلوك الأخضر (Green Literacy)

  • الأهمية: تحويل الوعي البيئي إلى سلوك ومسؤولية فردية ومجتمعية لمواجهة تحديات الاستدامة وتغير المناخ.

  • التطبيق: دمج مفاهيم الاستدامة، وتغير المناخ، واقتصاد التدوير في جميع المواد الدراسية، فمثلاً في الأدب يدرسون أدب البيئة، وفي الاقتصاد يدرسون الاقتصاد الأخضر.

المحور الثالث: التفكير النقدي والتطبيقي

  • الأهمية: ضمان ربط المعرفة النظرية بالتطبيق العملي والمساهمة الفعالة في التنمية المجتمعية.

  • التطبيق: تحويل البحث العلمي إلى “خدمة مجتمعية مُلزمة”، بحيث تُعاد صياغة رسائل التخرج والماجستير لتكون مرتبطة بحل مشكلة حقيقية في محيط المؤسسة، مثل تطوير منتج محلي أو تحسين جودة المياه أو الصناعات الدوائية والغذائية.

خاتمة: العقل النقدي هو عملة المستقبل

إن إصلاح التعليم لم يعد يتعلق فقط بـ«ماذا» يدرس الطالب، بل بـ«كيف» يفكر، و«من» يشارك في صياغة مستقبله.
فحين يتحول المعلم والطالب إلى فاعلين نقديين، وتصبح الإدارة التعليمية مختبراً للوعي، يمكننا أن نؤمن بأننا نزرع بذور الحرية الفكرية والعدالة الاجتماعية.
إن العقل النقدي هو العملة التي لا تفقد قيمتها في سوق المستقبل المتغير.

تابعنا على تطبيق نبض

مقالات ذات صلة

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من المستقبل الاخضر

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading