في ظل تنامي الابتكارات في مجال تقنية الغذاء، يبدو أن التقدم العلمي وحده لا يكفي لتسريع وصول المنتجات إلى المستهلكين بشكل آمن وفعال.
مؤتمر دبي الدولي لسلامة الغذاء 2025 (DIFSC 2025) كشف بوضوح أن العامل الحاسم للمستقبل الغذائي ليس فقط في المفاعلات الحيوية أو خطوط الخلايا، بل في التنظيم والقدرة على التعلم التنظيمي السريع.
صناديق التنظيم.. أكثر من أداة
شهد المؤتمر مشاركة متنوعة من المشرعين، خبراء الفاو، العلماء، والمبتكرين، في معظم الدول، تتحرك هذه الأطراف في مسارات متوازية، غالبًا ما يلتقون بشكل شكلي دون تأثير فعلي على تقدم الابتكار.
دبي قلبت هذا النموذج: جميع الأطراف اجتمعت في غرفة واحدة، تبادلت الأسئلة والآراء، وتفاعلت مباشرة مع التحديات والفرص.
هنا يظهر دور صناديق التنظيم (Regulatory Sandboxes) ليس كحل سريع أو استثناء، بل كأداة منظمة لتعلم مشترك، تتيح للمبتكرين والهيئات التنظيمية اختبار التقنيات قبل سن القوانين.
الإمارات اعتمدت نموذج RegLab الفيدرالي الذي يسمح بالاختبار التجريبي قبل التشريع، ما يقلل عدم اليقين ويزيد من سرعة التكيف مع الابتكارات الجديدة.
السلامة الغذائية كقوة ناعمة
في دبي، لم يُنظر إلى السلامة الغذائية كبيروقراطية روتينية، بل كأصل استراتيجي يعكس قدرة الدولة على إدارة المخاطر، بناء الثقة، وجذب الاستثمارات العالمية.
معظم العقبات التي تواجه تقنية الغذاء في أوروبا أو أمريكا الشمالية ليست علمية، بل تنظيمية: تحديد المسؤوليات، تفسير المخاطر، والموثوقية في اتخاذ القرار.
صندوق التنظيم يوفر ثلاث مزايا رئيسية:
– رؤية مبكرة للهيئات التنظيمية: مراقبة التقنيات في بيئة خاضعة للرقابة، ما يقلل الثغرات ويعزز الفهم.
– تقليل عدم اليقين لدى المبتكرين: القدرة على جمع البيانات الواقعية تحت إشراف حكومي يقلل من المفاجآت التنظيمية لاحقًا.
– تنظيم قائم على الأدلة: صياغة القوانين بناءً على ما ينجح فعليًا، وليس على افتراضات نظرية.
تجارب عالمية مقارنة
الإمارات ليست الوحيدة التي اعتمدت صناديق تنظيمية متقدمة؛ المملكة المتحدة أطلقت صندوقًا لتقنية اللحوم المزروعة، وسنغافورة تتبنى مبادئ مماثلة ضمن إطار الأغذية الجديدة، بينما أوروبا بدأت للتو في تعديل نظامها لـ Novel Foods، مع تقديم إشارات واضحة حول الإجراءات الجديدة، مثل الحد من التأخيرات، وضوابط صارمة للبيانات المتأخرة، وتسريع فحص الاكتمال.
لكن أوروبا ما تزال تواجه تحديًا جوهريًا: ضعف إمكانية التفاعل المبكر بين المبتكرين والمنظمين، هذا الفارق في النهج يؤدي إلى بطء الابتكار ليس لقلة القدرة العلمية، بل لتأخر توافر الهياكل التنظيمية التي تسمح بالحوار المبكر وتبادل المعلومات الواقعية.
أهمية التوجيه العلمي المبكر
– الدروس واضحة: 20 دقيقة من التوجيه العلمي المبكر قد توفر سنة من الدراسات غير المتناسقة، الأنظمة التي توفر هذا التفاعل المبكر، مثل RegLab الإماراتي أو نماذج سنغافورة، تمكّن الشركات من معرفة المتطلبات التنظيمية مسبقًا، ما يعزز سرعة وصول الابتكارات للسوق بثقة وشفافية.
التحدي والفرصة الأوروبية
– تتمتع أوروبا بميزات كبيرة: مؤسسات قوية، تراث علمي عميق، آليات مراجعة شفافة، وحماية قانونية راسخة، لكنها بحاجة لإعادة تصميم طرق الدخول المبكر للمبتكرين ضمن أطر واضحة، حيث تتيح الصناديق التنظيمية التفاعل المبكر، مشاركة المعرفة، وتقليل المجهول قبل اتخاذ القرار النهائي.
الدعوة العالمية للعمل
ما قدمته دبي ليس صدفة، بل نتيجة استثمار مستدام في حوكمة الابتكار وتنمية القدرات التنظيمية، الجمع بين الهيئات التنظيمية، المبتكرين، وخبراء عالميين يعكس التزامًا واضحًا ببناء نظام غذائي مستقبلي آمن، موثوق، وسريع التكيف.
في نهاية المطاف، المستقبل الغذائي لن يُحدد فقط بالعلم أو الاستثمار، بل بالقدرة على التعلم التنظيمي، وتقليل المجهول، وبناء الثقة بين القطاعين العام والخاص.
صناديق التنظيم مثل RegLab ليست رفاهية، بل ضرورة لابتكار مستدام ومأمون، وفرصة للدول لتكون في مقدمة التحول الغذائي العالمي.
