قبل زمن طويل من تزيّن الأزهار بالألوان الزاهية أو إطلاق الروائح العطرة، كانت النباتات ترسل إشارات إلى مُلقِّحاتها بطريقة مختلفة تمامًا: عبر الحرارة.
تكشف دراسة علمية حديثة أن السيكادات – وهي من أقدم النباتات البذرية الحية على كوكب الأرض – تستخدم الدفء نفسه لتوجيه عملية التلقيح. إذ تبدأ المخاريط الذكرية في التسخين أولًا، ما يجذب خنافس متخصصة. وبعد ساعات، ترتفع حرارة المخاريط الأنثوية بدورها، فتستدرج الحشرات للانتقال إليها، مكتملةً بذلك عملية نقل حبوب اللقاح.
ويمثل هذا الاكتشاف أول دليل على أن الأشعة تحت الحمراء تعمل كإشارة تلقيح مباشرة، كاشفًا عن قناة تواصل قديمة سبقت البتلات والعطور، بل وسبقت ظهور النباتات المزهرة نفسها.
وتقول الباحثة الرئيسية ويندي فالنسيا-مونتويا من جامعة هارفارد: «هذا بُعد جديد من المعلومات التي تستخدمها النباتات والحيوانات للتواصل، لم نكن نعرفه من قبل. كنا نعرف الرائحة واللون، لكننا لم نعلم أن الأشعة تحت الحمراء يمكن أن تكون إشارة تلقيح».
نخيل الكرتون
تُعرف السيكادات أحيانًا باسم «الأحافير الحية». فقد ظهرت قبل نحو 275 مليون عام، وبلغت ذروتها في العصر الجوراسي. ولا يتبقى منها اليوم سوى نحو 300 نوع، معظمها مهدد بالانقراض، وتعتمد غالبًا على نوع واحد فقط من الخنافس للتلقيح.
ركز الفريق البحثي على نبات Zamia furfuracea، المعروف بـ«نخيل الكرتون»، وعلى خنفسائه الشريكة Rhopalotria furfuracea. في هذا النظام القائم على الجذب والدفع، تسخن المخاريط الذكرية أولًا لتجذب الخنافس كي تتغذى على حبوب اللقاح، ثم تصبح الإشارة الحرارية طاغية، فتغادر الحشرات نحو المخاريط الأنثوية التي تبدأ بالتسخين في توقيت لاحق.
وأظهرت صور التصوير الحراري أن المخاريط، وليس الأوراق، هي مصدر الإشعاع الحراري. فالحراشف التكاثرية غنية بالميتوكوندريا، ويمكن أن تتجاوز حرارة المخروط في هذا النوع 25 درجة مئوية فوق حرارة الهواء المحيط، بل إن بعض الأنواع الأخرى من السيكادات تسجل درجات أعلى.
وعبر دراسة 17 نوعًا، لاحظ الباحثون إيقاعًا يوميًا واضحًا: في أواخر النهار تسخن المخاريط الذكرية وتبرد، وبعد نحو ثلاث ساعات تبدأ المخاريط الأنثوية في التسخين، وهو توقيت يتوافق بدقة مع حركة الخنافس.
كما كشفت تجارب تتبع ميدانية باستخدام أصباغ فلورية فوق بنفسجية أن الخنافس تتجمع أولًا على أكثر المخاريط الذكرية سخونة، ثم تنتقل لاحقًا إلى المخاريط الأنثوية الدافئة مع تقدم الليل.
ويضيف الباحث نيكولاس بيلونو: «كانت النباتات الذكرية والأنثوية تسخن وفق إيقاع يومي مضبوط، ويمكننا رؤية كيف يتطابق ذلك مع حركة الخنافس».
وتبيّن أن الخنافس مهيأة عصبيًا لاكتشاف الحرارة؛ إذ تحتوي قرون استشعارها على بُنى حسية دقيقة مزودة بخلايا عصبية حساسة للدفء. وحدد الفريق بروتين TRPA1 كعنصر أساسي في هذه العملية، وهو البروتين نفسه الذي تستخدمه الثعابين والبعوض لرصد الأجسام الدافئة. والأهم أن كل نوع من الخنافس يضبط حساسيته الحرارية وفق «نقطة الضبط» الحرارية لمخروط نباته الشريك، في مثال واضح على التطور المشترك.
لطالما عرف العلماء أن بعض النباتات ترفع حرارة أزهارها أو مخاريطها أثناء التلقيح، وكان الاعتقاد السائد أن الهدف هو تعزيز تطاير الروائح. غير أن النتائج الجديدة تشير إلى أن الحرارة ليست مجرد عامل مساعد، بل إشارة قائمة بذاتها، فعّالة خصوصًا على المسافات القريبة حيث تتلاشى تدرجات الروائح.
ويخلص الباحثون إلى أن الإشارات الحرارية ربما كانت من أقدم لغات التواصل بين النبات والحشرة، قبل أن تهيمن الألوان الزاهية لاحقًا مع ازدهار النباتات المزهرة.
