د.أحمد هاني: البيئة والأمراض المعدية والوبائية
أستاذ الحساسية والصدر وطب البيئة بالأكاديمية الطبية العسكرية

عند الحديث عن الأمراض المعدية والوبائية، فأول ما نبحث عنه هو الميكروب المسبب للأمراض المعدية، وهل هو بكتيريا أو فيروس أو أميبا أو ديدان، ثم نعرف كيفية انتقالها للإنسان ثم الظروف البيئية التي تحفز او تمنع انتقالها، وهل هناك حشرات أو حيوانات وسيطة في دورة حياة الميكروب، تسمح لنا بمقاومته أثناء تواجده في تلك الحشرة أو الحيوان وكسر دورة حياة الميكروب.
فمثلا نجحت مصر إلى حد كبير في مقاومة مرض البلهارسيا، بالتوعية بعدم التبول في الترع، والقنوات، مما أدي كسر دورة حياة الطفيل، ومنع اليرقات عن القوقع الحامل لها، وكانت قواقع البلهارسيا قد زادت في مصر علي أثر بناء السد العالي، حيث قل الطمي بدرجة كبيرة، وكان هذا الطمي يترسب على القواقع في قاع النهر، وعلى ضفافه عازلا القوقع عن يرقات الطفيل.
وناقلات الميكروبات متنوعة جدا من الحشرات والطيور والحيوانات المتأقلمة على المعيشة في بيئة معينة تستقر، وتتكاثر فيها، وقد تنتقل من مكان الي آخر طبقا للمواسم، والعديد من الطيور المهاجرة ينتقل من الشمال للجنوب أو بالعكس حاملا معه الميكروبات التي قد تصيبه بمرض ما أو يكون مجرد حامل أو ناقل لها.
حركة الحيوانات والميكروب
وتغير الظروف البيئية لا يؤثر فقط على حركة الحيوانات، وإنما يؤثر على الميكروب نفسه، وقد تحدث فيه طفرات جينية تؤدي إلي تحوله لأكثر شراسة وقابلية للعدوى.
ومن المنتظر أن يؤدي تغير المناخ إلى تغير في خرائط الأمراض والوبائيات فمثلا التصحر، وفقدان الغابات سيؤدي إلى انتقال الحشرات والحيوانات والأمراض إلى مناطق زراعية أو مناطق عمرانية، خصوصا لو أن هذه الحشرات تتغذي علي الفضلات والقمامة.
فمثلا خلال العشرين سنة السابقة فقدت أمريكا اللاتينية غابات تقارب من مساحة أوروبا، وحدث انتقال للناموس حاملا معه فيروس زيكا الخطير الذي يسبب حمى نزفية تقتل ما يقرب من عشرين في المائة أو أكثر من المصابين بها، وهو مرض ليس لها لقاحات او أدوية.
والتصحر في أفريقيا قد يسبب انتقال الناموس إلي دول شمال حوض وادي النيل وشمال أفريقيا حاملا معه حمى الدنج والحمى الصفراء.
ومع هذا الانتقال وتغير درجة الحرارة في الإقليم قد يحدث طفرات جينية تجعل المرض ينتقل بين البشر، وبعضهم، ويعد هذا تطور خطير للأمراض وضغط أكثر على النظم الصحية.
الطفرات الجينية
ومؤخرا أعدمت فرنسا خمسة عشر مليون دجاجة بسبب إصابتها بأنفلونزا الطيور، وغالبا تمت الإصابة عن طريق طيور مهاجرة، وبالرغم من أن أنفلونزا الطيور تنتقل بين البشر عن طريق الرزاز، إلا أن تداول لحوم الدجاج المصابة يعد عامل هام لانتقال المرض من اليد إلى الجهاز التنفسي.
وإذا تحدثنا عن حدوث الطفرات الجينية لأحد الميكروبات، فنحن نتحدث أولا عن البيئة المحيطة، فارتفاع درجة الحرارة من الممكن أن تؤدي الي تكاثر أعداد الميكروبات، كما لو أن البيئة الطبيعية المحيطة تحولت إلى مزرعة لهذا الميكروب، وبكثرة التكاثر في البيئة المناسبة تحدث طفرات جينية للبكتريا تجعلها أكثر شراسة أو تؤدي إلى مزيد من تكاثر الحشرات حاملة معها الفيروسات ليصاب العائل بفيروسات متعددة، ويحدث طفرات فيروسية وإنتاج فيروسات جديدة.
ويتوقع العلماء أن مع إذابة الجليد في القطب الشمالي، سيشهد العالم فيروسات جديدة قد تكون أخطر مما عرفته البشرية طوال تاريخها.
تصرفات البشر كعامل مؤثر في تغير البيئة
وأثر البيئة لا يتوقف عند تغير المناخ أو ارتفاع درجات الحرارة، وإنما يمتد لتصرفات البشر كعامل مؤثر في تغير البيئة المحيطة من أجل الوصول إلى أهداف عاجلة تؤدي إلى تدهور الوضع البيئي، وشكل وخريطة الأمراض على المستوى المتوسط والبعيد.
فمثلا إزالة الغابات من أجل الحصول على الأخشاب أو لزراعة الأرض دون الإحلال بالشجر مكان ما استقطع سيؤدي إلى انتقال بعض الحيوانات والحشرات بما تحمله من ميكروبات إلى أماكن التجمعات البشرية.
واستخدام المبيدات الحشرية بكثافة سيؤدي إلى ظهور أجيال من الحشرات تتكيف مع هذه السميات، وقد تتحول الميكروبات بها بفعل السميات إلى ميكروبات أكثر شراسة.
كوارث وسلسلة الغذاء
بل والتدخل في سلسلة الغذاء من الممكن أن يؤدي إلى كوارث، فمثلا قتل الثعابين بأعداد كبيرة أدي إلى تزايد أعداد الفئران في أستراليا، بل وتزايد حالات الأمراض التي تسببها الفئران من أول حمى عضة الفأر إلي تزايد الأمراض الموجودة في فضلات الفأر، وكان الحل تربية الثعابين من جديد.
وفي الصين في خمسينيات وستينيات القرن الماضي شجعت الدولة صيد العصافير حتي لا تأكل محصول الأرز، والقمح فزادت الآفات الزراعية والديدان التي أنهت المحاصيل لتحدث المجاعة الكبرى، ويموت مائه وخمسين مليون مواطن بسبب الجوع أو الأمراض التي أصابتهم بسبب نقص المناعة.
كما أن إنتاج الأغذية وتجميد اللحوم لابد وأن يكون مصاحبا له نظام صحي بيطري قوي قادر علي اكتشاف الأمراض، والكشف عن الأغذية والقصور في هذا النظام الصحي سيؤدي إلي حدوث حالات شديدة من التسمم الغذائي بالسالمونيلا، والأخطر انتقال الأنثراكس من الحيوان إلى الإنسان لينتقل بين البشر وبعضهم.
العادات والأمراض
وعلم الوبائيات لا يقتصر فقط على الأمراض المعدية، فهناك العديد من العادات الإنسانية التي تتسبب في حدوث أمراض بشكل وبائي، وتلعب البيئة دورا كبيرا في تدهورها، فمثلا أمراض الحساسية زادت وتعتبر بشكل وبائي طبقا للإحصائيات، بسبب تلوث الهواء بالعوادم والأتربة ليأتي استخدام المطهرات والمعطرات بكثافة داخل المنازل ليكون عاملا هاما في زيادة حدة المرض، بل واستخدام الألوان، والنكهات الصناعية في المأكولات تسببت في زيادة حالات الحساسية ومتاعب الجهاز الهضمي.
والتغير في أسلوب الحياة من الحياة في أجواء طبيعية والحركة خلال اليوم إلى حياة في غرف مغلقة مكيفة وعدم الحركة إلى تزايد معدلات السمنة والأمراض المصاحبة لها بشكل وبائي، خاصة في أوروبا، وأعلنت منظمة الصحة العالمية أن السمنة تعتبر حاليا وباء مستوطن في أوروبا.
الحرب وانهيار النظم البيئية
والحروب التي تشنها الدول تتسبب في انهيار النظم البيئية بشكل كبير، وفي تحليل مبسط لنتائج الحرب في أوكرانيا نجد الآتي :
الحرب تسببت في تدميرأ من ثلاثين في المائة من البيئة التحتية لأوكرانيا، مما سيحدث نقص في إمداد المياه وقصور في الصرف الصحي ونقص في الطاقة وسيؤدي ذلك إلى أمراض معدية بها.
يوجد خمسة ملايين لاجئ أوكراني في الدول المجاورة سيشكلون ضغطا علي النظم البيئية والبنية التحتية وسيعانون من نقص الأغذية التي تعاني منه أوروبا حاليا مما سيزيد من تفاقم الأوضاع.
أوكرانيا كانت من أكبر الدول المنتجة للحبوب والزيوت وسترتفع أسعار هذه المواد جدا بجوار الاضطراب الحادث في النقل، وقد يؤثر ذلك على العديد من السكان في عدة أقاليم عالمية، وقد تحدث مجاعات.
الزيادة في أسعار الغاز والبترول قد يؤدي إلى استهلاك أكبر للفحم، ويعيق خطط حماية وإصلاح المناخ.
انهيار البنية التحتية في أوكرانيا، والضغط على المرافق في الدول المجاورة سيؤدي إلى تراكم القمامة، وانتشار القوارض مع زيادة الأمراض التي تنقلها القوارض والبراغيث، وأخطرهم وباء طاعون يصيب وسط وشرق أوروبا
مع إعلان روسيا عن وجود أكثر من ثلاثين مصنع ومعمل للحرب الكيمائية والبيولوجية في أوكرنيا، قد تتسرب بكتريا وفيروسات من إعداد الإنسان ليس لها علاجات او أمصال معروفة، وانتشارها عالميا، خاصة أن روسيا أعلنت أن من ضمن الخطط استخدام الطيور المهاجرة لنقل الأمراض.
إدارة أزمات الأمراض الوبائية:
أولا: إنشاء مراكز لرصد الوبائيات على غرار Center of Diseases Control – CDC الأمريكي يكون وظيفته رصد الوضع الوبائي المحلي والعالمي، ودراسة طرق الانتشار وتقييم العلاجات والأمصال التي قد تستخدم.
ثانيا: قيام الهيئات الصحية باتخاذ اللازم نحو عدم الانتشار وتقييم تلك الجهود لمعرفة نجاحها من عدمه.
ثالثا: دراسة مستقبلية يتم معها توقع وصول الوباء من عدمه، ومعرفة الاحتياجات المطلوبة، وتحضير المخزون من أدوية ومستلزمات طبقا لكل حالة.
رابعا: إذا كان هناك احتمال تسرب إشعاعي من تدمير مفاعل نووي أو استخدام أسلحة نووية، فيجيب إعطاء السكان المعرضين أقراص يود كوقاية لهم
خامسا: عمل بروتوكول علاجي للأمراض المحتملة من خطوات تشخيصية وعلاجية، وعمل دراسات إحصائية مستقبلية عن أعداد الحالات ومحاولة معرفة عدد الحالات الشديدة وتحديد المراكز العلاجية وتدريب العاملين على التعامل معها.
سادسا: عمل الدراسات لتحديد الإغلاق من عدمه وتكلفة الإغلاق وتكلفة الوصول لمناعة القطيع ووضع السياسات التي تسمح باتخاذ قرارات مدروسة.
سابعا: عدم الانتظار حتى حدوث الوباء في البلد أو المنطقة، وإنما توعية المواطنين بما يجب أن يفعلوه من سبل للوقاية عند حدوث الوباء.
ثامنا: الشفافية التامة وإعلان الخطوات المتخذة وأعداد المرضي والأفضل إنشاء موقع مخصص بأسماء المرضى وأماكنهم، مما يمنع الشائعات ويمنع ازدحام الأهالي علي المراكز العلاجية.
الخلاصة:
للوقاية من الأمراض الوبائية معدية أو غير معدية، لابد لنا من النظر لظروف البيئة التي تسمح بانتقال المرض ومعرفة كيفية انتقاله وإصلاح العوامل البيئية التي تؤدي إلى انتشاره مع الرصد المستمر، والتوقع المستقبلي للأمراض محليا وعالميا والاستعداد لاحتوائها، وتحضير الأطقم الصحية والمستلزمات لذلك.