وجهات نظر

د.عاطف معتمد: التفسير الاقتصادي للسردية المقدسة!

أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة القاهرة

قبل عدة أعوام خاطب نتنياهو جمع من الإعلاميين قائلا: “أتذكرون قصة موسى الذي ضرب الحجر بعصاه فانفجرت منه المياه؟” إننا في إسرائيل صنعنا معجزات كالتي فعلها موسى، معجزتنا اليوم في التكنولوجيا والتنمية الاقتصادية ورفاه دولة إسرائيل”.

يقوم خطاب نتنياهو على متناقضتين:

– استغلال الموروث الديني وقصة موسى لدى المؤمنين، وهم جمهور كبير.

– علمانية التنمية الاقتصادية والتقدم الصناعي والتكنولوجي في العصر الحديث.

ما أراد نتنياهو قوله إنه وحزبه قد صاروا أنبياء هذا الزمن وصانعي معجزاته على أسس علمية عقلانية.

هذه المفارقة الساخرة من نتنياهو تفوت على كثير منا، حين نخطئ فنربط ما يحدث في فلسطين بنصوص العهد القديم.

أي النظر إلى وجود إسرائيل الحالية باعتبارها إعادة إحياء لمملكة يهودية قديمة في أرض فلسطين، جاء ذكرها في أسفار اليهود وكتبهم المقدسة.

ما يحدث في فلسطين منذ تأسيس دولة إسرائيل الحديثة هو مشروع اقتصادي انتهازي جغرافي قائم على استنزاف استعماري للمنطقة، ولا علاقة له بأية وعود إلهية أو مستحقات دينية.

ونخطئ أيضا حين نفسر العنف والإبادة ضد الشعب الفلسطيني باعتباره عقدة نقص وتعويض عن طردهم من أرض مصر التي يرويها لنا سفر الخروج.

فالجنود المهاجرون من بلاد شتى والمرتزقة – بعد كل هذه الآلاف من السنين – لا علاقة لهم بأي شحن عاطفي أو قومي بطرد أجدادهم من بني إسرائيل من وادي النيل.

التفسيرات الدينية للأسفار والقصص المقدسة تخفي الأسباب الحقيقية لطرد بني إسرائيل من مصر.

فالذين يؤمنون بقصة اليهود في مصر يتجاهلون كيف جاءوا إلى بلاد النيل.

تذهب النظرية الاقتصادية إلى رؤية اليهود ضمن القبائل الآسيوية التي كانت تعيش على الرعي في البادية الصحراوية في غرب آسيا، وتسببت واحدة من موجات الجفاف الشديدة في شح الأمطار وتهديد الحياة بالهلاك، فهجروا الصحراء مثل أي قبائل آسيوية رعوية وجاءوا إلى الهوامش الشرقية لدلتا النيل.

يفترض المؤرخون أن القبائل التي ستصبح يهودية بديانة موسى عاشوا كما تعيش قبائل الصحراء على ضفاف دلتا النيل أو واديه، يضعون خيامهم في نصف حياة صحراوية ونصف حياة طينية. وبدهي أنهم كانوا يعملون أجراء لدى مصر القديمة لكسب أقواتهم.

وخلافا للصورة التي ترسمها الكتب المقدسة من أنهم كانوا يعيشون في هدوء وسكينة وأن المشكلة الوحيدة كانت مع نبيهم موسى ضد فرعون مستبد، فإن التفسير الاقتصادي يذهب إلى القانون الشهير الذي عرفته نزاعات القبائل البدوية مع السلطات المركزية حين تقوم بأعمال شغب فتلجأ الدولة إلى طردهم وحرمانهم من الخير الذي كانوا قد أعطوه لهم من قبل.

بناء على التفسير الاقتصادي والسياسي – وليس الديني والنص المقدس – فإن المصريين طردوا اليهود مثلما حصل وسيحصل مع عشرات القبائل المرتحلة التي أتت لطلب الجوار والحماية والطعام وأساءوا إلى من استضافهم وقدم لهم المأوى.

ينسحب التفسير الاقتصادي على رحلة بني إسرائيل في خروجهم من مصر، فقد خرجوا من أرض خصبة وحياة آمنة وهاموا في برية سيناء الصحراوية فعانوا الجوع والعطش والمرض، وبالتالي كان دخولهم أرض الكنعانيين في فلسطين كدخول التتار والمغول لاحقا حين ضربهم الجوع فدخلوا على المدن المستقرة وعاثوا فيها حرقا وتدميرا ونهبا وسلبا.

المفسرون الماركسيون الذين يقولون ذلك يطبقون نفس النظرية على ظهور الإسلام في قريش، فقد جاء لأسباب اقتصادية بحتة لإنقاذ العرب من وضعهم الهامشي على خريطة العالم.

قدم الإسلام لشبه الجزيرة العربية طوق نجاة إذ انطلقت القبائل التي لا تقدس جغرافية الوطن الصحراوي إلى الهجرة نحو خيرات الشرق والغرب وقفزت قفزة اقتصادية تحت راية الإسلام ورسالته في الغزو والفتح .

في حالة بني إسرائيل يستمر التفسير الاقتصادي مع قفزات التاريخ، وفي القرن العشرين منح الاستعمار البريطاني فلسطين لمشروع استثماري يهودي، لا عن إيمان بالعقائد الدينية والنصوص المقدسة بقدر ما هو مشروع استعماري ومكافأة اليهود لوجودهم في صف بريطانيا أمام ألمانيا النازية. علاوة على إبقاء وكيل للاستعمار بعد رحيله.

القمة العربية والإسلامية التي اجتمعت قبل يومين تعرف تمام المعرفة أنه لا سبيل لحل المشكلة بالشجب والاستنكار والمناشدة، يعرف كل رؤساء هذه الأمم أن الاقتصاد هو السلاح الوحيد لوقف هذه الإبادة: مقاطعة اقتصادية، وقف تصدير البترول والغاز للدول المساندة، إيقاف صفقات السلاح بمليارات الدولارات….إلخ .

الاقتصاد يعني شبكة واسعة من الإنتاج والتصدير والاستهلاك والتسليح، وهو الوحيد القادر على تغيير خريطة العالم.

ما يفعله المواطنون العاديون من مقطاعة اقتصادية يساهم في علاج الحالة النفسية للمقاطعين لكنه بكل أسف لا يصيب الدول العنصرية في أزمة اقتصادية، لأن هامش المقاطعة على المستوى الشعبي ولا سيما في الدول الفقيرة ضعيف التأثير إذا قورن بقرار سياسي من دولة واحدة أو عدة دول.

منذ القصص الدينية لبني إسرائيل في مصر وفلسطين، الصراع قائم على نواة صلبة من الأسباب الاقتصادية والنزاع على الموارد، يحيط بهذه النواة غلاف رقيق (نفاذ الرائحة) من الأبعاد الدينية.

ولو تكرر ما يحدث في فلسطين مرة كل عشر سنوات..لن تحل القضية إلا بحل اقتصادي – عسكري.

وحتى في دخول روسيا وإيران في الازمة الحالية بحل عسكري وتهريب أسلحة نوعية إنما جاء من جهة وافدة على دول الطوق العربي، كما أن سلوك روسيا وإيران يفسر أيضا من خلال الأبعاد الاقتصادية والجغرافية السياسية أكثر ما هو مدفوع بأبعاد دينية.

قد تستخدم إيران البعد الديني وكذلك قد تفعل روسيا، لكن تدخلهما جاء لمشكلة اقتصادية عسكرية وجغرافية سياسية في الصراع مع الغرب الأوروبي والولايات المتحدة.

الصراع إذن في جوهره استعماري اقتصادي استغلالي وعنصري..والأبعاد الدينية غلاف رقيق نفاذ الرائحة يتلاعب به العلمانيون من قادة إسرائيل مثلما تلاعب نتنياهو حين قال إنه أحدث معجزة في إسرائيل تفوق معجزات موسى.

 

نقلا عن صفحة د.عاطف معتمد الشخصية على فيس بوك 

تابعنا على تطبيق نبض

Comments

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
%d