د.عاطف معتمد: جزيرة فرعون.. الجغرافيا تحمل التاريخ!
أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة القاهرة

أخذت الصورة المرفقة قبل عشر سنوات من زيارة ميدانية إلى خليج العقبة، على مرمى حجر من طابا.
في هذا المكان الاستراتيجي النادر يمكنك النظر إلى أربع دول: الأرض المصرية التي نقف عليها في الصورة، السعودية، الأردن، فلسطين.
في العقود الأخيرة كان هذا الموقع محل اهتمام تطبيق المراحل الأخيرة من اتفاقيات السلام المبرمة بين مصر وإسرائيل، بعد حرب أكتوبر التي تحل الذكرى الخمسين لانتصارها المشرف بعد أيام قليلة.
تحمل جزيرة فرعون التاريخ عبر قرون متعاقبة، وأهم محطاته:
خلال الحروب الصليبية
حين كان التحكم في هذه الجزيرة يعني السيطرة على وسط سيناء والعقبة والدخول إلى فلسطين ونهر الأردن.
وقد سارع صلاح الدين الأيوبي في عام 1170 بالسيطرة على الجزيرة وإقامة قلعة عسكرية فوقها لتتحكم في حركة الملاحة الحربية عند رأس العقبة، منتزعا إياها من الاحتلال الصليبي.
ويدهشنا هنا أن صلاح الدين حمل أجزاء من السفن عبر صحراء سيناء على ظهور الإبل وجمعها معًا على شواطئ الخليج وأنزلها إلى مياه البحر لاستهداف قوات الصليبين في العقبة وجنوب النقب.
وكان صلاح الدين على ما يبدو يقلد الملك خوفو الذي سبقه بنحو 3700 سنة، حين كان العمال المصريون في عهد خوفو يصنعون المراكب في النيل ثم يحملونها مفككة إلى أجزاء على ظهور الدواب في الصحراء الشرقية ليصلون بها إلى خليج السويس ثم ينزلونها بعد تجميعها في مياه الخليج ليعبروا عليها إلى غرب سيناء.
والثابت أن خوفو وكل من جاء بعده كانوا يفعلون ذلك لأهداف التعدين من أرض سيناء علاوة على الأهداف العسكرية والأمنية الأخرى.
ظهرت جزيرة فرعون
بقوة في نهاية القرن التاسع عشر في يناير من عام ۱۸۹۲ حين نشبت أزمة بشأن سيناء مع تولي الخديوي عباس حلمي الثاني ولاية مصر خلفا لأبيه المتوفى محمد توفيق، وصدور فرمان الخليفة العثماني بحرمان مصر من معظم أرض سيناء وتحديد نفوذها فيما بين العريش والسويس، أي إخراج ثلاثة ارباع سيناء من سيادة مصر!
وقد تصدت سلطات الاحتلال البريطاني للفرمان العثماني الذي كان الخديوي الجديد على استعداد لقبوله والتسليم به والتضحية بسيناء !
ونجح الضغط البريطاني في رضوخ “الباب العالي” والتراجع عن “سلخ” سيناء من مصر وضمها إلى ولاية الحجاز التابعة بدورها للدولة العثمانية.
خلال هذه الأزمة كانت كل من القوات العثمانية والبريطانية مستعدة لخوض المعارك والاشتباك في جزيرة فرعون وبقية المواقع الاستراتيجية في خليج العقبة.
عادت جزيرة فرعون
تطل بقوة في أزمة عام ١٩٠٦ حين تعاونت ألمانيا مع الدولة العثمانية لمد خط سكة حديد الحجاز الذي كانت ستخرج منه شعبة من “معان” إلى “العقبة” على رأس الخليج قبالة جزيرة فرعون.
ومع تفاقم الأزمة وقرب وقوع اشتباك بين القوة البريطانية والتركية انسحبت القوة البريطانية والقوة المصرية المرافقة (بقيادة الضابط سعد بك رأفت) إلى جزيرة فرعون للتحصن بها.
كما قامت بريطانيا التي كانت تحتل السودان – باسم مصر – بإرسال السفينة الحربية “ديانا” من ميناء بورسودان لتدخل إلى خليج العقبة والوصول إلى جزيرة فرعون لمؤازرة السفينة المصرية “نور البحر”.
واقتربت القوات التركية من حد الاشتباك مع القوات المصرية في جزيرة فرعون في فبراير 1906.
عملت بريطانيا على تنويع الضغط فوجهت واحدة من سفنها الحربية “منيرڤا” لتقف في بورسعيد على أهبة الاستعداد من أجل التحرك في البحر المتوسط إلى العريش لمواجهة الأتراك على الحد الشرقي لمصر لإكمال الضغط على جهة العقبة وطابا وجزيرة فرعون.
وفي جزيرة فرعون وقف القائد المصري سعد بك رأفت في مواجهة القائد التركي رشدي باشا على شفا المواجهة الحربية التي كانت بريطانيا تجيش لها كل الجهود.
تمكنت بريطانيا باستخدام أساليب متنوعة ومناورات العلاقات الدولية من حسم الموقف لصالح مصر وترسيم حدود مصر مع الدولة العثمانية في طابا بحلول مايو 1906.
إذا ذهبت إلى خليج العقبة وقبل دخولك طابا ستجد جزيرة فرعون تقف وديعة حالمة رومانسية في مياه البحر الأزرق العميق، يرفرف عليها علم مصر، لا تخبرك بشيء عن تاريخها المشرف منذ عهد الحملات الصليبية إلى يومنا هذا.