وجهات نظر

د.معتز محمد أبو زيد: العدالة المناخية والتقاضي الاستراتيجي

قاض- محاضر مواد القانون العام - خبير تشريعات حقوق الإنسان

تحولت موضوعات التغير المناخي من نطاق الظواهر إلى نطاق القضايا التي تشغل مساحة كبيرة حاليا من الأبحاث والدراسات وخطط العمل الحكومية بل والنصوص والتشريعات التي تنظم العديد من الأنشطة المختلفة، وعلى رأسها الأنشطة الاقتصادية والحيوية والجيولوجية وحقوق الإنسان.

ولعل وصف ما يحيط بالتغير المناخي بأنها مجموع قضايا، إنما هو الأقرب للصحة ليس فقط لاتساع نطاق البحث، ولكن لما يوشك أن يظهر من أهمية و فعالية لدور القضاء و عملية التقاضي في المشاركة في مواجهة مشكلات التغير المناخي.

وتعتبر مهمة القاضي في تناول القضايا المعروضة عليه مهمة على جانب كبير من الحرفية و الجوانب الفنية و التي لا تتوقف فقط عند تفسير و تطبيق نصوص القانون وإنما الوصول الى قصد المشرع من وراء وضع و تنظيم هذا النص و هو ما يجعل دور القاضي هو المحرك الأساسي الذي يحول نصوص القانون الى تطبيقات حية تضمن تطبيق ذلك القانون بالصورة الصحيحة التي قصدها المشرع و ارتضاها المجتمع في ثوابت نظامه العام .

حفظ حقوق الأجيال القادمة

وبالإضافة لما تقدم فان موضوعات التغير المناخي عند تناولها وتداولها في ساحات القضاء، تستعرض العديد من الجوانب ليس فقط أفكار تطبيق النص وعقاب المذنب، وإنما تحقيق فكرة العدالة المناخية، ومواجهة المشكلة، ومنع تفاقمها، وهو الهدف الأسمى من وراء التعامل مع مشكلات التغير المناخي، بل وأبعد من ذلك يتعين أن يكون للحكم القضائي في موضوعات التغير المناخي الآثر المستدام وفكرة نتائج، وتبعات تطبيق ذلك الحكم ،بما يحفظ ذات التأثير والمواجهة لحفظ حقوق الأجيال القادمة بشأن مواجهة تبعات المناخي.

نمو الوعي البيئي والمناخي لدى القاضي

إن بروز فكرة التقاضي الاستراتيجي أو تقاضي الأثر، أي أن يكون القاضي حريصا على استشراف ما بعد مرحلة انتهاء القضية، والفصل فيها، وما سيحققه حكمه من آثاره تجعل قضايا التغير المناخي من الموضوعات الثقيلة على كاهل القضاة، مما يتعين التعامل معها من نحو خاص، ومن زاوية محددة حتى تنتج عملية التقاضي آثارها، ولا يقصد بذلك فقط تفريد التخصص بمحاكم أو دوائر متخصصة لقضايا التغير المناخي، والحفاظ على البيئة، وإنما فكرة نمو الوعي البيئي والمناخي لدى القاضي، واستشعار آثار حكمه على الواقع المناخي والبيئي، بل واستدامة ذلك الآثر.

ولا يمكن أن نتصور أن يصل القاضي إلى الفكر الفني المساوي للمتخصصين في قضايا التغير المناخي، ونقاط البحث المختلفة فيه، وإنما يتعين أن يكون لدى القاضي ما هو معلوم في هذا الأمر بالضرورة من شمولية قضايا التغير المناخي، وضروريات العدالة المناخية، وتحديد فكرة المسئوليات المشتركة، والتاريخية المسببة لهذه التغيرات المناخية.

مجال إنشائي واسع

ومما لا شك فيه فان القضاء عند نظر قضايا التغير المناخي سيتمتع بمجال إنشائي واسع، وستظهر ملامح واضحة لنظام القضاء الأنجلوسكسوني الغربي، والذي يعتمد على ما يستحدثه القضاء من قواعد حتى في عدم وجود نص، ينظم هذه القضايا، وهو من الاحتمالات الواردة لحداثة العهد بقضايا التغير المناخي، والعدالة المناخية، مما يعني أن أحكام القضاء في مثل هذه القضايا ربما ستكون أول القواعد التي قد تسبق التشريعات أحيانا في تنظيم هذه الموضوعات وإيجاد الحلول لهذه المنازعات .

اعتناق الفكر الاستراتيجي

وعلى جانب آخر يمكن الإشارة الى أن تطبيق مبادئ القضاء الإنشائي أو اضطلاع القاضي باستحداث القاعدة مع غياب نصوص قانونية لتنظيم هذه الأمور المتعلقة بالعدالة المناخية، إنما سيلجأ بالقاضي الى اعتناق الفكر الاستراتيجي الذي يضمن تفاعلية هذه الأحكام مع الأنظمة السياسية، وخطط الحكومات وسياساتها بما ينتهي الى حسن تطبيق و تنفيذ هذه الأحكام و التأكيد على استهدافها و ارتباطها بحقوق الإنسان والتي هي من أسس وركائز أفكار العدالة المناخية، بل المنطلق الأول لتحديد قضايا التغير المناخي و العمل عليها .

المبادئ العامة للقانون

وتعد المبادئ العامة للقانون، وهي أحد مصادر القاعدة القانونية التي يستعين بها المشرع من أول الخطوط العريضة التي يمكن أن تعين القاضي في محاولة تفعيل التقاضي الاستراتيجي، حيث أن العدالة و المساواة و مفاهيم الحرية و الحماية وإنفاذ الحقوق، وتوزيع المهام والواجبات وتحديد نطاق السلطة في مقابل مجالات الحرية و ممارساتها إنما هي من أقرب المفاهيم لتحقيق العدالة المناخية ومواجهة حالات التغير المناخي والتي يمكن التعامل معها بشيء من الرؤية والتطور المطلوبة و المناسبة جدا لقضايا التغير التي تتجدد في العديد من الأشكال وتحمل كل يوم طابعا جديدا و صورة أكثر اتساعا و أكبر تأثيرًا.

الاتساع و العالمية و الشمولية

يتضح أن اعتناق القضاء لفكر التقاضي الاستراتيجي إنما يحقق اتساع في نطاق البحث، وتطبيق نص القانون، وإنفاذ الأحكام القضائية كذلك، وهو ما يمكن أن يتوافق بصورة كبيرة مع ما تتمتع به قضايا التغير المناخي من الاتساع و العالمية و الشمولية، وأن هذه الأحكام قد تجعل من سلطات القضاء أحد الروافد الأولى التي تحقق سبقا في التعامل مع قضايا التغير المناخي، حيث أن أحكامها في مختلف الدول و المجتمعات، وأن لم تتطابق فهي على أقل تقدير ستتشابه بما يحقق تواجها متكاملا ضد هذه الظواهر والتغيرات، وتقدم السلطات القضائية بذلك نموذجا لتوحيد الجهود، وتقارب وجهات النظر تحت مفاهيم العدالة المناخية التي تشكل مسارات جديدة للتعاون بين الدول على أساس أنها جميعا تواجه ذات مشكلات التغير المناخي، وجميعها كذلك تتوحد في المبادئ التي تتعامل بها أنظمتها القضائية مع هذه القضايا و المتغيرات.

تفعيل مبادئ التقاضي الاستراتيجي

إن تفعيل مبادئ التقاضي الاستراتيجي هو تحقيق أمثل لأفكار العدالة والإنصاف، والتي تجعل من مؤسسة القضاء فاعل أساسي في مواجهة قضايا التغير المناخي من الجانب الاقتصادي و الاجتماعي حيث تعد أحكام القضاء ذات الصبغة الاستراتيجية خارطة طريق لتعديل و استحداث و تطوير أنظمة اقتصادية وسياسات عمل العديد من الحكومات إن لم تتكامل معها لتحقيقها على نحو أفضل، وعلى جانب آخر فان التحول الى الفكر الاستراتيجي في مؤسسة القضاء سوف يحقق كسبا في علاقة مؤسسات الدولة مع المجتمع المدني إذ أن قواعد العدالة والإنصاف والمساواة والحشد والمناصرة لإعلاء هذه المفاهيم انما هي ركائز العمل المجتمعي ومن أهم مبادئ كيانات العمل الأهلي و لمجتمع المدني والتي ستستجيب بكل تأكيد لحراك التقاضي الاستراتيجي خاصة اذا صدر عن مؤسسة القضاء التي تتمتع في أوساط المجتمعات على مستوى العالم بكل تأييد واحترام.

ممارسات القضاء

إن ممارسات القضاء إنما هي من أهم مراحل تطور الحضارة البشرية، ومن الاتجاهات الفارقة في تطور فكر الإنسان نحو اعتناق أفكار المجتمع القانوني، واحترام سلطاته ومؤسساته، وليس بخاف أن رجال القضاء إيمانا منهم بهذه المسئولية قد قدموا ما لديهم من نتاج علمي وذهني وخبرات متعددة في سبيل إعلاء رايات العدالة وخدمة الحق، وهو ما انعكس في الأحكام القضائية واستشعره الأفراد في المجتمع مناصرا لحقوقهم وحرياتهم، وهو ما يجعل القضاء شريكا أساسيا و فاعلا في تقديم مفاهيم جديدة لمواجهة مشكلات التغير المناخي التي ترتكز على دعامتي العدالة وحقوق الإنسان، وهو ما ستكشفه الأيام القادمة، وما سيكون القضاء حريصا على إيضاحه مع تداول قضايا التغير المناخي ليثبت أنه قادر على التفاعل مع هذه القضايا و تطوير فكره وأساليبه، بما يحقق العديد من النتائج الإيجابية في الوصول لحلول لمشكلات التغير المناخي.

تابعنا على تطبيق نبض

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من المستقبل الاخضر

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading